أحببت الشاعر الكبير محمد الفيتورى (1936- 2015) منذ قرأت له نصا يقول فيه "وبى من الهم ما بالكون من عرب/ ضاقت بهم صحراء التيه فاقتتلوا" كما ظلت القصيدة التى يقول فيها "يا عاصفا حيث تخطو/ لشد ما أنت غاضب/ تكاد تشهق رعبا/ وأنت آت وذاهب/ فى مدن من نحاس/ وأمة من عجائب" واحدة من مختاراتى الشعرية مهما تغيرت رؤيتى واختلفت.
ومحمد الفيتورى إنسان جميل مثل شعره، التقيته مرة فى معرض القاهرة الدولى الكتاب فى بداية الألفية الجديدة، وكان طيبا فعلى الرغم من ظروفه المعروفة للجميع سمعته يعطى رقم تليفونه الدولى للناس ويقول لهم فقط اطلبوا الرقم وأنا لن أفتح عليكم سأتصل أنا بكم.
عاش حياة غريبة مع الحياة والموت غريبة، فالموت ظل يراوغه منذ زمن طويل، وربما هو أكثر شاعر طاردته شائعات الموت، فمنذ سنين عدة لا تخلو السنة من شائعة تتعلق برحيل محمد الفيتورى، حتى وصل الأمر فى أبريل 2012 إلى أن كتب فاروق شوشة "أنعى لكم الفيتورى" وبعض الشعراء والكُتّاب العرب ذهبوا إلى نظم المراثى فى بعض المواقع الإلكترونية دون التحقق من صحة المعلومة، وكان رد الفيتورى عليهم "شكرا لكل من تذكرنى".. وفى 30 ديسمبر 2013 تجددت الشائعات مرة أخرى وكانت إحدى القنوات قد تناقلت خبر وفاته مما دفع أسرته للخروج لنفى هذه الشائعة.
وحكاية الفيتورى مع الحياة أغرب من حكايته مع الموت فشاعر إفريقيا الكبير الذى وهب نفسه وشعره لها، لم يعرف تحديدا تاريخ ميلاده هل هو 1930 أم 1936، ولم يخضع يوما لبلد واحد، حتى تقديمه فى الأمسيات الشعرية كان محيرا، فهو السودانى المصرى الليبي، ولد لأب سودانى من أصول ليبية وعاش فى إسكندرية مصر والتحق بكلية دار العلوم بالقاهرة، طرده جعفر النميرى من السودان 1974 وأسقط عنه الجنسية وفى ليبيا تم منحه جواز سفر ليبى وارتبط بعلاقة قوية بالعقيد معمر القذافى وبسقوط نظام القذافى سحبت منه السلطات الليبية الجديدة جواز السفر الليبى، فأقام بالمغرب وفى عام 2014، عادت الحكومة السودانية ومنحته جواز سفر دبلوماسى، كل شعوب هذه البلدان تحبه وكل أنظمتها لا تحبه، كم دولة أسقطت جنسيتها عنها وتركته فى ظن منها أنها ستكون نهايته، لكن لكونه "ابن أفريقيا" لم يجزع أبدا.. وكان يواصل الشعر والحياة.
وها هو جوجل يحتفى بتاريخ ميلاده، ليستيقظ العالم العربى اليوم فيرى صورته على الباحث الشهير ثم يذهب للبحث عن شاعر أفريقيا وقصيدته:
ألأن وجهى أسود
ولأن وجهك أبيض
سميتنى عبدا
ووطئت إنسانيتي
وحقرت روحانيتي
فصنعت لى قيدا
وشربت كرمى ظالما
وأكلت بقلى ناقما
وتركت لى الحقدا
ولبست ما نسجت خيوط مغازلي
وكسوتنى التنهيد والكدا
وسكنت جنات الفراديس
التى بيدى نحت صخورها الصلدا
وأنا.. كم استلقيت فى كوخ الدجى
أتلفح الظلمات والبردا
كالشاة.. أجتر الكآبة
عاقداً حولى دخان تفاهتى عقدا
حتى إذا انطفأت مصابيح السما
وانساب نهر الفجر ممتدا
أيقظت ماشيتى الهزيلة
وانطلقت أقودها لمراحها قودا
فإذا سمن نعمت أنت بلحمها
ونبذت لى الأمعاء والجلدا!
.....
لا يا أخي.!
إن التهاب مشاعرى هيهات بعد اليوم أن يهدا
هيهات
لم أخلق عليها بومة
تقتات بالديدان أو قردا
أنا كائن وأمى وأمك طينة
والنور ليس لأينا جدا
فإلام تحرمنى حقوقي؟
بينما تلقى السعادة أنت والرغدا
وإلام تستعلى بأنفك سيدا؟
وأنا أطأطئ هامتى عبدا
....
إنى صحوت..
صحوت من أمسي
وذى فأسى تهد قبوره هدا
سأكون نارا.. فالحياة تريدنى نارا
وأرقص فوقها رعدا..
فاخلع براقع كبريائك..
إننى أسكنت جيفة ذَلتى لحدا
واضمم يديك إلى يدي
نشدْ معا صرح المحبة بيننا شيدا
......
إنى أخوك فلا تعق أخوتي..
فتزيد بركانيتى وقدا..
إياك.. لا تبذر بذور عداوتي
فتعود تحصد شوكها حصدا
إياك لا تزرع حقولك عوسجا
إنى زرعت حقوليَ.. الوردا
.....
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة