"وفى كل خطوة أنا بانكسر وأرجع صحيح" بهذه الكلمات للشاعر الكبير فؤاد حداد، استهلت المخرجة هالة جلال، مقدمة فيلمها الوثائقي الطويل "من القاهرة"، كمنطلق للتعبير عن حال المرأة ووضعها المجتمعي .
"من القاهرة" فيلم ينتمي إلى نوعية "تسجيلية المعايشة"، عُرض لأول مرة عالميًا ضمن مسابقة آفاق السينما العربية، خلال فعاليات الدورة الـ43 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وفاز بحائزة أفضل فيلم تسجيلي، ويستعرض مدينة القاهرة من واقع سيدتين، يتتبع مسار حياتهما وسعيهما للتعايش مع المجتمع .
الفيلم بدأ مستعينا بأصوات من مشاهد أفلام مصرية قديمة، منها المشهد الشهير الذى يجمع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب مع الممثلة راقية إبراهيم، في فيلم "رصاصة من القلب"، مع عدد من أغنيات زمن الفن الجميل، وتبدأ المخرجة أحداث فيلمها بتعليق: مشاهد الحب في أفلامنا القديمة «مبقاش لها مكان في حياتنا»، ربما لتعزيز الشعور بأن ما يتبع عن حالة الحب داخل المجتمع وكيف فقدنا الكثير من مشاعرنا في غمرة الظروف المجتمعية القاسية، وكتمهيد للدراما، التي ما أن تبدأ لتأخذك سريعًا إلى حياة فتاتين لديهما معاناتهما الخاصة.
يحكي الفيلم عن امرأتين مستقلتين داخل العاصمة في العقد الرابع من عمرهما، يعملان بالفن، الأولى مصورة وفنانة تشكيلية هبة خليفة (أم ورد)، والثانية آية يوسف التي تعمل «مونتيرة»، وشاركت المخرجة حكايتها داخل العمل لكنها جاءت بشكل رمزي، خاصة في بداية العمل ونهايته، تعبيرًا عن معايشتها الشخصية، ومفسحة المجال لسيدتي الفيلم.
التباين بين حياة السيدتين وضح جليًا، فالأولى "هبة" خرجت من تجربة زواج فاشلة انتهت بالطلاق، أنجبت خلالها ابنتها "ورد"، واستطاعت مواجهة الحياة بقوة وصلابة رغم كل الإحباطات التي واجهتها حتى من أقرب الناس إليها "أمها"، لكنها نجحت في تحديها، لتبدو طيلة الفيلم ناضجة وصاحبة إدراك ووعي لفهم لطبيعة حياتها وخطوتها حتى وإن كانت مغامرة بعض الشيء.
من جهتها، واجهت "آية" يتمها المبكر برحيل أبويها وانفصال حياتها عن شقيقها بعد زواجه، بالتماسك، وإن بدت أنها لا تزال في مرحلة البحث والتجربة رغم أنها أصبحت على دراية بالشكل الأنسب إلى روحها.
الفكرة الأساسية التي ربما حاولت المخرجة هالة جلال تقديمها كانت "تحدى الخوف" وهزيمته، وكان هو أهم الرسائل التي حاول العمل توصيلها، فالعمل والاختيار الحر للمسار الذاتي ومن ثم تحقيق النجاح وسيلة ناجعة لإيجاد حياة أقل خوفًا.
استعانت المخرجة بوجهي الفن والرياضة كوسيلتين للتعبير والتنفيس عن المرأة، ووظفتهما المخرجة بشكل معبر، فالرسم التشكيلي جاء معبراً عن الصور النمطية التي يضع المجتمع المرأة بداخلها، ورياضة التزلج أو "الدربي" التي تمارسها بطلة العمل "آية" معبرة تماماً عن محاولات المرأة التقدم للمجتمع رغم العراقيل المتعددة.
الفيلم منذ بدايته يعرض صورًا لمجموعة من السيدات التقطتها بطلة الأحداث هبة خليفة أثناء عملها، وتظهر كلوحات تعبيرية عن وضع المرأة المهمش داخل المجتمع، والعيوب التي يوصمها بها كالسمنة والعقم ونوع الملابس، وكأنها مجرد كتلة يجري تشكيلها حسب نظرة الآخرين، وهو ما وظفته المخرجة باستخدام عناصر الديكور ببراعة فيما يخدم الدراما.
ونجد تكرار مشهد ظهور "المانيكان" في المحلات المنتشرة في شوارع القاهرة أو داخل منزل أبطال العمل، وكأنه تعبير عن تشيء المجتمع للمرأة وتحويلها إلى جماد أو كتلة صامتة بلا روح، وإظهار "الدبابيس" على جسد إحدى السيدات في جلسة تصوير مع بطلة العمل هبة خليفة، وكأنها دبابيس المجتمع نحو المرأة، وتعبيرًا عن أن جسد المرأة هو أكثر ما يشغل المجتمع بوصفه ملكًا لهم وليس من حقها استخدامه كما ترغب.
ويستمر التحدي، لترد هالة جلال على نظرة المجتمع الأصولية عن حجاب المرأة وترديد مقولة "ينتهي الغلاء عندما تتحجّب النساء" (كما يظهر في إحدى لقطات الفيلم)، بخلع بطلة فيلم "آية" حجابها كنوع من التحرر من القيود، واختيار شكل للحياة يناسبها ولا يقيدها.
الموسيقى التصويرية كانت معبرة إلى حد كبير عن مضمون حديث أبطال العمل، واستخدمت المخرجة بحرفية بعض الأغاني القديمة تعبيرًا عن حالة كل بطلة وحديثها وطبيعة المكان، فتجدها تستعين بالأغنية اللبنانية "بين البيوت" أثناء زيارة "هبة" لبيروت. أما أماكن التصوير جاءت مختلفة ومتنوعة ومعبرة عن طول فترة تصوير الفيلم الزمنية، مظهرة انتقال "هبة" من شقة إلى أخرى، كما تتنقل الأحداث عبر مدن القاهرة والإسكندرية وبيروت ودبي، وإن كانت الأولى هي محور الأحداث باعتبارها محل سكن بطلتي العمل.
ربما يؤخذ على الفيلم هو طوله نسبياً حوالي (65 دقيقة)، فكان الاختصار ممكنًا وتقديم نموذجين متقاربين في الظروف والحالة الاجتماعية، وعدم التوسع في نماذج نسائية من ظروف مختلفة.
في النهاية قدم الفيلم، صورة أكثر إنسانية عن معاناة المرأة وتنميطها داخل المجتمع، ورغم تكرار فكرته مع العديد من الأعمال الروائية والوثائقية الأخرى، لكنها أكثر تنوعًا في تناولها، وأقربها صدقًا وألفة إلى المتلقي.