أربع وعشرون سنة تجمّد خلالها المشروع. لا سبب معلوم - بعيدا عن العوائق المالية التى يمكن تذليلها بأفكار مبتكرة - إلا أن الرؤية التى تأسس عليها وقتها لم تكن تملك القدرة أو الإرادة لإنفاذه إلى منتهاه. الآن نراه واقعا ملموسا بعدما قبضت الدولة على ذاكرتها، وقررت إعادة الاعتبار لكل جهد بُذل بإخلاص ومعرفة، من أجل تغيير واقع أقل من طموحات المصريين، ورسم ملامح مستقبل نتمناه جميعا، ويليق بنا ونليق به.
عندما أطلقت الدولة مشروع تنمية جنوب الوادى "توشكى" أواخر العام 1997، كانت الصورة مُشرقة والتطلعات إلى آخرها، لكنه لنحو عقدين لم يتحرك خطوة واضحة، إلى أن التفتت إليه الإدارة المصرية بالعام 2017، وشمّرت ساعديها للعمل وصولا به إلى افتتاح المرحلة الأولى اليوم. لكن أبرز ما فى مشهد الانطلاق الفعلى ليس امتلاك القدرة والإرادة فقط، وإنما امتلاك الذاكرة والجرأة، والقدرة على تفتيش الملفات القديمة وفرزها وإعادة إحيائها، وحفظ الجميل ونسب الفضل لأهله.
خلال حديثه من أقصى الجنوب اليوم، قال الرئيس عبد الفتاح السيسى إن ما يتحقق فى توشكى ليس جديدا أو من فراغ، وإنما هو مسار تحمله رؤية قائمة منذ أمد، وتحدّه أحلام ودراسات سابقة الإعداد، وبحد تعبيره "تلك المخططات أعدتها وزارة الرى وحكومة الدكتور الجنزورى، ولم نفعل شيئا جديدا". ليس فى ذلك إشارة إلى امتلاك الدولة ذاكرة حية فقط، بل أهم ما فيه الجرأة الواضحة من رأس الدولة، والموضوعية والإنصاف بنسب فضل الفكرة والتأسيس إلى أصحابه السابقين، تجسيدا لحقيقة جوهرية وحاجة لازمة لأن تكون الدولة كيانا دائما، ودولابا مستقرا، وتسلسلا تنفيذيا وتخطيطيا لا ينقطع.
اعتدنا طوال عقود مضت، أن تشطب كل حكومة على ما فكرت فيه وأقرته الحكومات السابقة، وفى أفضل الظروف أن تشطب أسماء السابقين وتنسب الأمر لنفسها. الآن تؤمن الإدارة أن الغاية أهم من الوسيلة، وأن محطة الوصول ليست فى خصومة مع الطريق وسوابق المحطات. هكذا تحدث الرئيس بعرفان، وشكر من يستحق الشكر، وأكّد ملكية الدولة بكل مراحلها لمنجزاتها السابقة واللاحقة، وأثبت أن غاية الإدارة فى الجمهورية الجديدة أن تحقق أهداف الناس لا أن تسجل فيهم أهدافا، وأن تصل إلى التنمية الشاملة والمُستدامة من أى طريق مُمكنة، ومن كل الطرق المُحتملة، حتى لو كانت طريقا فكّر فيها وابتكرها ومشاها آخرون من قبل. ومن هنا وجه الرئيس بإطلاق اسم الدكتور كمال الجنزورى، رئيس وزراء مصر الأسبق، على محور توشكى، عرفانا بالجميل أولا، وتثبيتا لتلك الفلسفة ثانيا. هكذا رأيت الأمر، واستشعرت قدرا من الصدق والجرأة والوضوح فى حديث الرئيس، لم نعتده من قيادة أو مسؤول من قبل، لكن يُجسّد حقيقة الدولة من جهة أنها كيان تنظيمى غرضه إدارة الجسد الاجتماعى الضخم، وسياسة أموره، وتوجيه قدراته، والأهم ضمان أن تتجذر ذاكرته وتتسع وتظل حيّة، لأنها الغلاف الجامع للجغرافيا والناس، والحافز الذى إن ظل سليما مُعافى فإنه لا يخفت أبدا ولا يهتز.
بعيدا من كل ما سبق، الأهم أن تأتى ولو متأخرا. الدولة جاءت إلى جنوب الوادى بعد انقطاع قرابة ربع القرن، وحفظت ذاكرتها، ولم تسلب سابقيها حقهم الأدبى والتاريخى. لكن فضلا عن السبق وأثر الإدارات السابقة، فإن ما شهدته "توشكى" خلال السنوات الأخيرة الماضية ملحمة حقيقية تستوجب التوقف، ويكفى أن نستعرض جانبا من الأرقام: نحو 85 ألف فدان مزروعة من إجمالى 500 ألف فدان يُستهدف وصولها إلى مليون مستقبلا، ومليون و350 ألف نخلة على 21 ألف فدان من المقرر أن تتبعها قرابة مليون نخلة على 16 ألف فدان إضافية، وفى سبيل ذلك شهدت أعمال البنية التحتية حفرا بنحو 4 ملايين متر مكعب، و1107 كيلو مترات من شبكات الرى، و12 ألفا و350 برجا كهربائيا ضمن شبكة تمتد لأكثر من 2000 كيلو متر، ومحطتى رفع بـ10 طلمبات عملاقة، و2279 جهازا محوريا للرى الحديث بين قائم وقيد التركيب، وأنشطة تشمل المناحل ومزارع الأغنام، وقاعدة تصنيع للأخشاب ومركزات الفاكهة وتعبئة التمور وغيرها.
مستقبلا يُسهم مشروع توشكى فى تقليص واردات القمح المصرية بنحو ثلاثة أرباع مستوياتها الحالية. وإلى جانب خطط التنمية الزراعية القائمة بمشروعات مستقبل مصر/ الدلتا الجديدة، وعلى محاور سيناء ووادى النطرون، إضافة إلى المشروع القومى للصوب الزراعية، وكل ما يخدم ذلك من برامج نوعية مثل تبطين الترع وتطوير أنظمة الرى فى الدلتا، وتحسين سلالات المحاصيل والعمل على رفع الإنتاجية، من أجل توسعة الرقعة الزراعية القائمة، وتحقيق أكبر عوائد ممكنة من المساحات المتاحة، وتنمية قطاع الصناعات الغذائية وزيادة القيمة المضافة للنشاط الزراعى، ورفع عوائد التصدير بما يضبط ميزان التجارة ويُحسن مؤشر المدفوعات والاحتياطى، وقبل كل ذلك تلبية الطلب المحلى وتحسين المعيشة والوصول إلى الاكتفاء الذاتى من الغذاء والسلع الاستراتيجية.
توشكى خطوة ضمن مشروع نهضوى كامل، تشكّلت ملامحه فى السنوات الأخيرة، وباتت الآن أكثر وضوحا وأعمق أثرا. بالتأكيد ستتبعها خطوات فى مناخ عام يحتفى بالنشاط ولا يتوقف عن العمل، محمولا على رؤية وطنية للتنمية والتحديث، وحاملا لافتة اختارت التنمية شعارا، والعمل على كل المحاور فلسفة ومسارا. وكما عادت "توشكى" إلى الحياة بعد سنوات طويلة تخيلناها فيها فارقت الحياة، فإن أفكارا وخططا ومشروعات أخرى ستعود، وسنرى جديدا يستضىء باحتياجات الواقع ويستعد لتحديات المستقبل، لكن وسط كل ما تحقق أو سيتحقق، تبقى الفلسفة أهم ما فى الأمر، فلسفة الرؤية والوعى والقدرة على استكشاف القدرات وحفز الطاقات، وقراءة ذاكرة مصر بروح صافية وعقل مفتوح، ثم كتابة سطر جديد فيها، وتغذيتها بمشاهد ورؤى ونجاحات خالصة لوجه الوطن، لا تضع فوقه فردا أو شعارا أو كيانا، فلا شىء يعلو فوق مصر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة