سعى الإنسان الدائم أدى إلى إشباع حاجاته، التي تضطره إلى اللجوء لبعض الأشخاص الذين يسبقونه في الخبرة والمعرفة، مما يخلق علاقة وتنظيم تلك العلاقة التبادلية، كانت هي البادرة إلى ظهور فكرة "العقد"، ولكن أدى التوسع في قطاع البناء والتشييد سواء من الحكومة أو الخاص إلى ظهور "عقد المقاولة"، من أجل تنظيم وحماية حق العامل، والتي كان قديما يندرج تحت عقد إجارة الأشخاص حتى تم فصله عن طريق القانون المصري لسنة 1948.
وعقد المقاولة، كما عرفته المادة 646 من القانون المدني: "المقاولة عقد يتعهد بمقتضاه أحد المتعاقدين أن يصنع أو أن يؤدى عملا لقاء أجر يتعهد به المتعاقد الأخر"، وهو عقد معاوضة تبادلي، ومن العقود المتراخية - من حيث المدة الزمنية - في أعمال مقاولات التشييد والمقاولة، و"عقد المقاولة" بمثابة "عقد معاوضة" وهو العقد الذي به تتحقق فائدة للأطراف المتعاقدة بحيث يأخذ كل طرف مقابلا لما يقدمه بحيث تكون هناك منفعة متبادلة بين أطراف العقد.
إشكاليات "عقد المقاولة" الناشئة بين المهندس والمقاول
في التقرير التالي، يلقى "اليوم السابع"، الضوء على إشكالية "عقد المقاولة"، والأزمات التي تقع بين الأطراف، والضمان القانوني للمقاول والمهندس الاستشاري المراقب للتنفيذ أو القائم بالتنفيذ، وهل يلتزم المقاول من الباطن بالضمان القانوني؟ ومدى مسؤولية المقاول أو المهندس المعماري في البناء أو الإشراف عن الضمان القانوني، وضمان المقاول أو المهندس المعماري في حالة تعلية مباني قديمة، وهل عيوب التربة تعفي من المسئولية؟ وهل يعفي من المسئولية خطأ مالك المشروع؟ ورأى محكمة النقض في تلك الأزمات، بحسب الخبير القانوني والمحامي بالنقض شوكت مدبولي.
في البداية - التراضي فى "عقد المقاولة"، يعتمد على الشيء المطلوب صنعه أو عمله، وعلى الأجر الذى يتعهد بدفعه رب العمل الى المقاول، وبالتالي "عقد المقاولة"، يتوافق كليا مع عقد المعاوضة، كما أن عقد المقاولة عقد تبادل، وهو العقد الملزم للجانبين، ويترتب فور توقيعه أو ابرامه نشوء التزامات متبادلة بين طرفي التعاقد، بحيث يصبح كلا من الطرفين تارة دائنا، وتارة أخرى مدينا أو كليهما فى ذات الوقت، وأمثلة العقد التبادلي كثيرة ومنها عقد الايجار والعمل والبيع وبالطبع عقد المقاولة، وهو أيضا من العقود المتراخية أي أن الزمن فيه ليس حاكما كعقد الإيجار، بل هو عنصر وعادة تمتد مدة عقد المقاولة لمدة زمنية في حالة إنشاء عقار، ولكن عنصر الزمن ليس هو العنصر الرئيسي لأن العنصر الرئيسي هنا هو إقامة البناء – وفقا لـ"مدبولى".
ومن نص المادة 646 من القانون المدني يمكن تحديد خصائص عقد المقاولة:
1-عقد رضائي: يتم برضاء الطرفين ولا يوجد ما يشترط شكل العقد
2-عقد ملزم للطرفين فيما يعرف بعقود المعاوضة.
3-المقاول يعمل مستقلا عن رب العمل، ولا يخضع لإشرافه وتوجيهه بل يعمل مستقلا طبقا لشروط العقد المبرم بينهما، وبذلك لا يكون رب العمل مسؤولا مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه، والاشراف المقصود هنا لا تعنى المعنى المتعارف عليه بين عموم المهندسين، بل هو معنى يشمل جوانب التحكم والسيطرة الكاملة أي أقرب ما يكون عقد عمل لدى رب العمل عنه عقد مقاولة.
أركان عقد المقاولة:
أركان عقد المقاولة كما يحددها فقهاء القانون هى الرضاء والمحل والسبب، والتي سيتم تناولها بإيجاز:
1-الرضاء فى المقاولة وهو يعتمد على وجود الارادة مع توافر الاهلية القانونية.
2-المحل، وهو فى عقد المقاولة بقصد به الالتزامات المتبادلة بين كل من رب العمل والمقاول.
3-السبب، وفى التشريع المدني المصري يتم التفرقة بين سبب العقد وسبب الالتزام، وفى هذا السياق أوضحت المادة 136 من القانون المدني أنه إذا لم يكن للالتزام سبب أو كان سببه مخالفا للنظام العام فعليه يصبح العقد باطلا، وسبب التعاقد هو الباعث على دفع المتعاقد على قبول العقد ويكون دائما موجودا، فيجب دائما أن يكون الالتزام سبب ويجب أن يكون مشروعا، كما يجب ايضا أن يكون الباعث على التعاقد محقق الوجود طوال فترة التنفيذ.
لكن يثور تساؤل.. مدى مسؤولية المقاول أو المهندس المعماري في البناء أو الإشراف عن الضمان القانوني
ويُجيب "مدبولى"، المشرع المصري في القانون المدني ألزم المقاول والمهندس المعماري بالضمان القانوني للمبنى الذي تم تشيده، لمده 10 سنوات، لذلك سماه الفقهاء بـ"الضمان العشري"، فقد نصت المادة 1/651 من القانون المدني على أنه: "يضمن المهندس المعماري، والمقاول متضامنين ما يحدث خلال 10سنوات، من تهدم كلي أو جزئي، فيما شيدوه من مبان أو أقاموه من منشآت ثابته أخرى، وذلك ولو كان التهدم ناشئا عن عيب في الأرض ذاتها، أو كان رب العمل قد أجاز إقامة المنشآت المعيبة، مالم يكن المتعاقدان في هذه الحالة قد أرادا أن تبقى هذه المنشآت مدة أقل من 10 سنوات".
هل للضمان القانوني أو العشري شروط لتحقق المسئولية؟
ومن السياق السابق، يتضح أن المشرع جعل مسئولية المقاول والمهندس المعماري مسئولية تضامنية فيما يحدث من تهدم كلى أو جزئي للمبنى خلال 10 سنوات، ولكن هل للضمان القانوني أو العشري شروط لتحقق المسئولية؟ فمن البديهي من وجود عقد مقاولة يكون مصدر التزامات المقاول والمهندس المعماري تجاه مالك المشروع، فلا يقوم ضمان المهندس المعماري أو المقاول طبقا لنص المادة سالفه الذكر، إلا إذا وجد عقد مقاولة بين رب العمل وبين المهندس المعماري، ولقد عرف القانون المدني عقد المقاولة في المادة 646 على أنه: "المقاولة عقد يتعهد بمقتضاه أحد المتعاقدين بأن يصنع شيئا أو أن يؤدى عملا لقاء أجر يتعهد به المتعاقد الآخر".
رأى محكمة النقض في الأزمة
وقد سبق لمحكمة النقض التصدي لمثل تلك الإشكالية في الطعن المقيد برقم 241 لسنة 40 قضائية جلسة 21 مايو 1975 – حيث قالت في حيثيات الحكم: "ضمان المهندس المعماري لتهدم البناء والعيب التي تهدد سلامته أساسه المسئولية العقدية المنصوص عليها في المادتين "651، 652" من القانون المدني، فهو ينشأ عن عقد مقاولة يعهد فيه رب العمل إلى المهندس المعماري القيام بعمل لقاء أجر، فإذا تخلف عقد المقاولة فلا يلتزم المهندس المعماري قبل رب العمل بهذا الضمان، وإنما تخضع مسئوليته للقواعد العامة في المسئولية المدنية، وإذ كان الطاعن قد تمسك في دفاعه أمام محكمة الموضوع بأنه لا تربطه بالمطعون ضدها الأولى "وهي صاحبة العمل" أية رابطة عقدية وأن عمله اقتصر على حساب تكاليف الإنشاءات الخرسانية كمشورة فنية مجانية قدمها للمرحوم المهندس، بناء على المعلومات الفنية الخاصة بالتربة التي تلقاها منه وأن مهندسا آخر هو الذي قام بوضع التصميم النهائي للبناء.
فإن الحكم المطعون فيه، وقد انتهى في قضائه إلى أن الطاعن مسئول عن ضمان العيوب التي ظهرت في البناء باعتباره المهندس المعماري الذي قام بوضع التصميم مع ما ذهب في أسبابه من أن المرحوم المهندس…، مورث المطعون ضدها الثلاثة الآخرين كلف آخر بعمل رسومات (الفيلا) ودون أن يستظهر الحكم العلاقة بين الطاعنين والمطعون ضدها الأولى ليستبين ما إذا كانت ناشئة عن عقد مقاولة، أم عن مجرد مشورة قدمها الطاعن بالمجان عن حساب تكاليف الإنشاءات الخراسانية للفيلا وذلك تحقيقا لدفاع الطاعن الجوهري، الذي إن صح لتغير به وجه الرأي في الدعوى، فإنه يكون شابه قصور في التسبيب".
أما عن الشرط الثاني فهو ما نصت عليه المادة 651 في فقرتها الأولى تشيد مبنى أو إقامة منشآت ثابتة، فلا تخضع للضمان المنشآت الغير ثابتة والتي تكون قابلة للفك والتركيب، ويقصد بالمباني كل ما يرتفع فوق سطح الأرض من منشآت ثابتة من صنع الإنسان، بحيث يستطيع الفرد أن يتحرك بداخلها وتوفر له حماية ضد المخاطر الناتجة عن المؤثرات الطبيعية الخارجية، وأيا كانت المواد التي شيدت منها، سواء كانت بالطوب أو الحجارة أو الخرسانة أو البلاستيك أو حتى بالحصير والأخشاب فالشرط أن يكون البناء ثابتا في مكانه لا يمكن نقله دون تلف أو هدم، ولم تحدد المادة السالفة غرض المبنى فيستوى في ذلك أن يكون معد للسكنى أو لمباشرة نشاط تجاري أو صناعي أو إداري أو ترفيهي مثل النوادي والملاهي، كما ينص المشرع على ضمان العيوب التي يترتب عليها تهديد متانة البناء وسلامته حيث تنص المادة 651 في الفقرة الثانية على أنه: "ويشمل الضمان المنصوص عليه في الفقرة السابقة ما يوجد في المباني والمنشآت من عيوب يترتب عليها تهديد متانة البناء وسلامته".
ويترتب على هذا النص عدة شرطين آخرين وهما:
1-أن يكون العيب من الخطورة بحيث يهدد سلامة البناء أو متانته.
2-وأن يكون العيب خفيا.
ويثور تساؤل آخر لا يقل أهمية عن التساؤل السابق.. هل عيوب التربة تعفي من المسئولية؟
ويؤكد "مدبولى": وفقا لنص المادة 651 الفقرة الأولى لا يعتبر عيب التربة سببا أجنبيا لإعفاء المقاول والمهندس المعماري من المسئولية، ذلك لأن بوسع المقاول بل هو من صميم أعماله القيام مسبقا بالاختبارات الفنية للتأكد من صلاحية التربة للبناء عليها، وبالتالي فإن حدوث هبوط للأرض التي شيد عليها البناء بفعل الأمطار ولو كانت أمطارَا استثنائية لا يعتبر قوة قاهرة، لأن مثل هذه الأمطار تعتبر أمراَ متوقعاَ وكان بالوسع اتخاذ الاحتياطات اللازمة لذلك.
ويثور تساؤل ثالث.. ضمان المقاول أو المهندس المعماري في حالة تعلية مباني قديمة
ونجيب عن ذلك: بأن العيوب الموجودة في المبنى القديمة لا تعتبر سببَا أجنبيَا يستطيع به المقاول دفع مسئولية، إذ كان بالوسع فحصها وكشف ما بها من عيوب، ويقوم هذا الحكم على القياس على الحكم المقرر بخصوص عيوب التربة.
هل يعفي من المسئولية خطأ مالك المشروع؟
لا يعتبر خطأ مالك المشروع سببَا أجنبيَا للمقاول أول المهندس المعماري، إلا إذا توافرت فيه خصائص السبب الأجنبي، فلا يعفى المقاول والمهندس المعماري من المسئولية إذا قاما بتنفيذ تعليمات خاطئة من رب العمل أو تدخل هذا الأخير في أعمال البناء، بفرض مواد رديئة استخدمت في أعمال البناء.
الضمان القانوني للمقاول أو المهندس المعماري في حالة الاشراف والبناء
نص المشرع على عدم سريان الضمان على المقاولين من الباطن في الفقرة الرابعة من المادة 651 مدني على أن: "ولا تسرى هذه المادة على ما قد يكون للمقاول من حق الرجوع على المقاولين من الباطن"، فإذا تعاقد المقاول الأصلي مع مقاول من الباطن على أن يقوم الأخير ببعض الأعمال كالأعمال الصحية والنجارة، فلا يكون المقاول من الباطن ملتزما بالضمان نحو المقاول الأصلي أو نحو مالك المشروع إلا بمقدار ما تقضى به القواعد العامة، والسبب في ذلك أن الضمان الوارد بالمادة 651 ضمان مشدد، اقتضاه مركز كل من رب العمل أو مالك المشروع والمقاول أو المهندس، فمالك المشروع يكون عادة رجلا غير فنى وغير خبير، فأراد القانون أن يحميه ضد المقاول والمهندس وهما من رجال الفن والخبرة، وليس هذا هو مركز المقاول الأصلي من المقاول من الباطن، فكلاهما من أهل الفن والخبرة، ولا يوجد مقتضى لحماية مشددة تمنح للمقاول الأصلي ضد المقاول من الباطن، ويكفي في حماية حقوق المقاول الأصلي الرجوع إلى القواعد العامة ففيها الغناء.
فكما ذكرنا في البداية - وفقا لنص المادة 651 الفقرة الأولى من القانون المدني أن مدة الضمان ضد التهدم الكلى والجزئي، وضمان عدم وجود عيوب تهدد متانة البناء وسلامته هي 10 سنوات، وهذه المدة مدة اختبار لسلامة البناء وليست مدة تقادم، وبالتالي لا يرد عليها الوقف أو الانقطاع، فمتى يبدأ سريان الضمان؟ ومتى ترفع دعوى الضمان؟ فيبدأ سريان مدة الضمان من تاريخ قبول مالك المشروع للبناء دون تحفظ، فإذا حرر محضر بذلك احتسبت هذه المدة من تاريخ تحرير المحضر، فإذا لم يحرر محضر بذلك تحتسب المدة من تاريخ تسلم مالك المشروع للبناء أو من تاريخ شغله له، فإذا لم يوجد محضر ولم يثبت تاريخ شغل رب العمل للبناء، احتسبت المدة من تاريخ تسوية الحساب مع المقاول.
ميعاد رفع دعوى الضمان
أما عن موعد رفع دعوى الضمان، فيجب رفع دعوى الضمان خلال ثلاث سنوات من تاريخ حصول التهدم أو اكتشاف العيب، وإلا سقطت دعوى الضمان أو حسب تعبير محكمة النقض فإن رفع الدعوى قبل مضى هذه المدة شرط لسماع دعوى الضمان، فإذا اكتشف رب العمل العيب الموجب للضمان قبل اكتمال السنوات العشر، قبل انتهاء السنة العاشرة، فإن بوسعه رفع دعوى الضمان خلال السنوات الثلاث التالية، فكأن الضمان يستمر في هذه الحالة ثلاث عشرة سنة تقريبا، وإذا اكتشف العيب عند السنة السابعة فيجب رفع دعوى الضمان خلال الثلاث سنوات التالية، وبالتالي يعتبر الضمان قد استمر عشر سنوات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة