حياة الصعايدة وتركبيتهم تكاد تكون واحدة، ربما تزيد اللهجة في منطقة عن أخرى، وقد تزيد المصطلحات والدماغ الناشفة في مكان عن آخر، لكن يبقى الصعيدى صعيدى في أى مكان بالعالم، فهو الذى كان يذهب للطاحونة قديما لطحن القمح والذرة، وهو الذى مر على كل القصص والحكايات التي شبينا عليها، فالصعيدى دائما يسمع مصطلحات " أبو رجل مسلوخة"، و " المسحور"، ويسمع جابر أبو حسين، وشاهد الوتد والضوء الشارد وذئاب الجبل، وهو الصعيدى الذى يرتدى " الجلابية" بكافة تطريزاتها، حتى أن لكل عائلة ترزى خاص بها، وكل عائلة يعرف عنها تلك تهتم باللبس، وتلك تجمع الأفدنة، وتلك عائلة صعبة التعامل معها قليل، وتلك عائلة كلها مناصب عليا، ونفس القصص تتكرر في كل قرية ونجع ومدينة في صعيد مصر، فالصعايدة حياتهم دائما تشبه كتب السيرة الذاتية، يكون صاحبها دائما لديه تفاصيل معظم ما حدث معه، وهكذا الصعايدة لا ينسون، فقيرهم وغنيهم، الكل يتفق على نفس التفاصيل، ورغم كل الانطباعات وكل الأمور التي قد تؤخد عن الصعايدة، لكن الصعيدى دائما قادر على ابهارك، فالأصيل أصيل حتى لو جار عليه الزمن، ومن أرتاح في غير ذلك، فمهما علا شأنه فأصله غالب.
أتذكر تلك اللحظات جيدا، تلك اللحظات التي كنا نضبط فيها الإذاعة على السيرة الهلالية بعد صلاة العشاء، لنسمع جابر أبو حسين، وهو يلقى بربابته وصوته المريح للنفس وقائع السيرة الهلالية ويتحدث عن سير الرجال وأبو زيد الهلالى والزناتى خليفة، كنا نتجمع في بيوتنا المبنية بالطوب الني " طوب أحمر"، كان الإحساس بالأمان إحساس عظيم، وبعض منا يذهب لإعداد " راكية النار"، وهى موقد النار للتدفئة، وتتكون من " الجروانة" وهى وعاء يشبه الطبق الكبير ولكن من الصاج، ونضع فيها " العضم" وهو الجزء المتبقى من الذرة الشامية بعد أخذ حباتها لاستخدامها في الطحين بعد ذلك، ونقوم بإشعال النيران للتدفئة، ونتجمع ونضع الجبنة في عيش البتاو ونضعهم على النار في شكل " سندوتشات".
تلك الذكريات المتداخلة بين " راكية النار" و السيرة الهلالية و المسلسل على إحدى قنوات ثلاث وهى القناة الأولى والثانية والقناة السابعة، ونحن ننتظر مسلسل الثامنة مساءا، وكلها مسلسلات أستطاعت أن تخلد اسمها في تاريخ الدراما المصرية، فكنا ننتظر تلك الأمور وقبل أن ينتهى المسلسل يكون معظمنا قد دخل في النوم أو يستعد له، باستثناء الشباب الذين يجلسون في " المندرة" أو على " الحضير"، مشاهد تكاد تكون في كل بيت صعيدى، تدعوك لأن تقدر الصعيد والصعايدة، فحياتهم رغم شعورهم بصعوبتها إلا أنها بسيطة للغاية.
الصعايدة لديهم حتى الآن " الكانون" ولديهم كل التفاصيل التي قد تراها في المسلسلات، حتى لو ابتعدت بعض القرى عن ذلك، لكن الصعيدى القديم موجود في كل قرية، الذى يذهب لصلاة الفجر بعد أن سمع صوت بعينه يأذن، وهو الذى يشعر بالطمأنينة بعد الوضوء، ويشعر بالتصوف وقت جلوسه في المسجد أو على " المصلية"، ذلك الصعيد الذى يبحث عن " حتة جبنة قديمة"، أو يذهب في يوم بالأسبوع لشراء اللحم من جزار تعود عليه من سنوات، وهو الصعيدى الذى يتفق مع جاره على " يومية شغل" في الغيط، ويعلم يقينا أن جاره أقل في العمل من غيره لكنه مجبور على ذلك، حفظا لماء الوجه، وهو ذلك الصعيدى الذى يكره " العيل التلفان" مهما ظن ذلك " العيل" أن لديه مال، ويمكنك في الصعيد أن تسمع الستات تدعيلك لمعروف فعلته من سنوات، ويمكنك أيضا أن تعرف أشخاص بعينهم ينكرون المعروف حتى وأنت تفعله فيهم بشكل مباشر، هذا الصعيد والصعايدة وحياتهم اللى مليئة بالتفاصيل.