تواجهنا مواقف كثيرة فى الحياة تقتضى ردا قويا، أحيانا تقتضى شجارا وغضبا، وبالطبع منا من يطيع نفسه فيفعل ذلك، ومنا من يستمع إلى كلام ربه ويركن إلى عقله ووعيه فيمتنع عن الانسياق وراء السيئة، بل إنه يقدم الحسنة بديلا.
يقول الله سبحانه وتعالى فى سورة "فصلت" "وَلَا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِى حَمِيمٌ"، تذهب التفاسير، ومنها تفسير الطبرى إلى أن المقصود "ادفع بحلمك جهل من جهل عليك، وبعفوك عمن أساء إليك إساءة المسىء، وبصبرك عليهم مكروه ما تجد منهم" وذلك المعنى حق، فالآية تقول لنا إن هناك فريقين، أحدهما يسير خلف السيئة تقوده بكل جهل وشر إلى الصدام والمواجهة الظالمة، وفريق آخر تقوده الحسنة التى تبدأ بالتسامح والرد على الفريق الأول بالخير.
ولكن هناك أمر مهم يستوقفنى دائما، ويدفعنى للتفكير فيه، وهو قوله سبحانه "فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِى حَمِيمٌ" حيث يقول المفسرون ومنهم ابن كثير "إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إلى مصافاتك ومحبتك، والحنو عليك، حتى يصير كأنه ولى حميم لك، أى: قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك"، وأنا لا أستبعد ذلك المعنى، ولكنى أفكر فى معنى آخر وهو أن المقصود أنك أيها الإنسان الخيِّر الذى تفكر دائما بالحسنى تتعامل مع المسىء بطريقة جيدة كأنه "صديق حميم لك" تتسامح معه، وكأنه "قريب لك" تمنحه فرصة مرة وثانية كأنه "ولى لك"، ولكن ليس معنى ذلك أنه سيصبح "وليا وقريبا وصاحبا" أبدًا فربما يصر على جهله وشره، وربما يتغير فعلًا عندما يرى المعاملة الحسنة، ولكن لا تتوقع ذلك كثيرًا، ولكن الذى تضمنه فعلا هو الثواب الإلهى على أفعالك الطيبة.
ومما أكد ما ذهبت إليه هو أن الآية التالية هى "وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" أى أن هذه المعاملة الحسنة فى المواقف الصعبة تحتاج صبرا كبيرا ممن يقوم بها وتحتاج أناسا قادرين على مقاومة أنفسهم آملين فى الله أن يجازيهم الحسنى ردا على فعلهم.