بالطبع، القلق مشروع فيما يتعلق بسد النهضة ومياه النيل، قضية مصيرية وجودية تمثل حياة للشعب المصرى على مدى آلاف السنين، وهناك فارق بين القلق والخوف المصحوب بطرح أسئلة، ونوع آخر من الادعاء يمثل حالة من الإرباك والتشكيك وطرح أسئلة خبيثة وإجابات تمثل نوعا من الابتزاز، أو محاولة لشق الصف، بالرغم من فشل الكثير من هذه المحاولات على مدار السنوات الأخيرة، وكانت مصر فى درجة من اللياقة أقل كثيرا مما هى عليه اليوم.
الدولة المصرية تمتلك خياراتها، وتحدد شكل ومكان وزمان تحركاتها، بناء على ما يتوافر لدى صانع القرار من معلومات، وليس بناء على ما يتاح من «بوستات»، قد تنطلق من أفراد لا تنقصهم المعرفة، ولكن يدفعهم نوع من الادعاء، واعتياد «إطلاق» تحليلات تتجاوز حدود الخيال، ومجال «الهبد».
الدولة المصرية تملك حق اتخاذ قراراتها بما يناسب قوتها وتأثيرها، ولا تخضع لابتزاز أو ضغط من أى نوع، وهذا من تجارب 8 سنوات شهدت أقصى تحديات.
فيما يتعلق بموقف إثيوبيا ورئيس وزرائها آبى أحمد، فلا يمكن لعاقل أن يتصور أن هذه التصريحات والادعاءات تنطلق من موقف طبيعى لدولة ذات مسؤولية، وآبى أحمد الذى يعجز عن إطفاء الحرائق الداخلية أو إنقاذ بلاده من حرب أهلية وصراعات عرقية يمكنه أن يمتلك قوة لموقف من السد فى مواجهة دولتى المصب مصر والسودان، وحتى فى مواجهة الدول الأفريقية والعالم، ويصل بالأزمة إلى هذا الموقف الخطير إقليميا ودوليا، يحمل قدرا غير مسبوق من التوتر.
فشلت إثيوبيا فى تعلية وسط السد لتخزين 13.5 مليار متر مكعب مكتفية بـ4 مليارات متر مكعب فقط، بهدف مداعبة - أو تخدير - الداخل المشتعل والمترقب، أما تصريحات الاستفزاز والتى تتحدث عن الحرب، فيكذبها الفشل فى حسم الصراعات الداخلية أو إطفاء حرائق أشعلتها سياسات آبى أحمد الذى فشل فى صراعات صغيرة، وراح يطلق تصريحات لا تناسب إمكاناته ولا استعداداته، وتكشف عن عجز وارتباك أكثر مما تشير إلى موقف قوى.
فى المقابل، فإن الموقف المصرى - منذ البداية - واضح، لا يخضع للابتزاز والاستفزاز، ويحرص على التعاون والحوار والتزام القانون الدولى، وهو التزام لا ينبع من استسلام أو ضعف بقدر ما ينطلق من قوة وثقة، وامتلاك كل الخيارات من دون تهديد أو تفريط، ومرارا حذرت مصر والسودان إثيوبيا من الملء الثانى للسد منفردة.
الموقف الإثيوبى لا ينطلق من حرص على حياة الشعب الإثيوبى، الذى يفترض أن السد من أجل تنميته، بينما يقدمه آبى أحمد قربانا لطموحات ومغامرات تخلو من المسؤولية الدولية والإقليمية، أو حتى المحلية، خطابات شعبوية تكذبها الهزائم المتلاحقة فى إقليم تيجراى، والتى تثير غضب العالم بسبب ما تضمنته من جرائم حرب عرقية وانتهاكات.
مواقف مصر حاسمة لم تتغير، التمسك بحقوق مصر المائية باعتبارها أمنا قوميا لا يمكن التفريط فيه أو قسمته، مع تحرك مصرى سودانى، قائم على القانون الدولى، متمسكين بالعلاقات لأقصى مدى، وضد أى اتفاقات فردية يمكن أن تنزع أى جزء من حق البلدين فى المياه، مع اقتناع واصطفاف شعبى خلف الدولة فى هذه القضية الوجودية.
تمسكت مصر والسودان بأقصى درجات ضبط النفس، حرصا على علاقات دول حوض النيل واللحمة الأفريقية، والرغبة فى التعاون، يتجه البلدان إلى جلسة مجلس الأمن، وبناء عليه ستتحدد مصائر المفاوضات أو القرارات.
قبل جلسة بمجلس الأمن عقد وزير الخارجية سامح شكرى مقابلات بمقر البعثة المصرية فى نيويورك، حيث التقى نظيرته السودانية الوزيرة د. مريم الصادق المهدى، ضمن تنسيق مصرى سودانى مشترك، والتقى سفراء الدول العربية والأوروبية والدول الكبرى، واللجنة العربية المعنية بمتابعة تطورات ملف السد والتنسيق مع مجلس الأمن، والمكونة من الأردن، والسعودية، والعراق، والمغرب، والجامعة العربية، ومجموعة الدول الأفريقية بمجلس الأمن، النيجر وكينيا، ومجموعة «ترويكا الاتحاد الأفريقى» المكونة من الكونجو الديمقراطية، وجنوب أفريقيا، والسنغال، فضلا عن المندوبين الدائمين والممثلين لعدد من الدول الأعضاء غير الدائمين بمجلس الأمن، أستونيا، وأيرلندا، والمكسيك، والنرويج، والمندوبين الدائمين، روسيا، والصين، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، وفرنسا التى تترأس مجلس الأمن الشهر الجارى.
أكد وزير الخارجية موقف مصر الثابت تجاه التوصل لاتفاق قانونى ملزم حول سد النهضة، وضرورة اضطلاع المجلس بمسؤولياته. والاحتمال الأقرب أن يكون هناك موقف متوازن يوقف تداعيات الأحداث ويحمى الأمن والسلم الدوليين.
وأكد نيد برايس، المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، ضرورة امتناع كل الأطراف عن اتخاذ إجراءات أحادية، مشددا على أهمية العمل على التوصل لحل تفاوضى مقبول من الجميع، معتبرا قيام إثيوبيا ببدء الملء الثانى لخزان سد النهضة إجراء أحاديا، وسببا فى زيادة التوتر فى المنطقة.
وقدمت تونس لشركائها فى مجلس الأمن مشروع قرار يدعو أديس أبابا إلى التوقف عن الملء الثانى لسد النهضة، والامتناع عن أى إعلان أو إجراء من المحتمل أن يعرض عملية التفاوض للخطر، وحاليا مطلوب من مصر وإثيوبيا والسودان استئناف المفاوضات بناء على طلب كل من رئيس الاتحاد الأفريقى، والأمين العام للأمم المتحدة، لتتوصل الدول الثلاث، خلال 6 أشهر مقبلة، إلى اتفاقية ملزمة لملء السد وإدارته.
p