نعرف صبرى موسى (1932- 2018)، الذى تمر اليوم ذكرى رحيله، إنه يحتل مكانة تليق به فى الوسط الثقافى، فهو كبير بين كبار الإبداع، يمسك حجر زاوية وحده، إن تحدثنا عن دائرة الإبداع العربى فهو فى المركز منها، لكن كيف تحركت الحياة بالطفل المولود فى دمياط من شمال مصر ليصبح أحد أهم مبدعيها فى القرن العشرين؟
فى البداية نستعرض معا، أعمال الكاتب الكبير صبرى موسى سنجد الروايات (حادث نصف المتر، فساد الأمكنة، السيد من حقل السبانخ)، أما قصص قصيرة فنجد مجموعات (القميص، وجها لظهر، حكايات صبرى موسى، مشروع قتل جارة)، وفيما يتعلق بسيناريوهات الأفلام (البوسطجى، الشيماء، قنديل أم هاشم، قاهر الظلام، رغبات ممنوعة، أين تخبئون الشمس"، وأدب الرحلات (فى البحيرات، فى الصحراء، رحلتان فى باريس واليونان، رحلة النسيان).
الولادة فى مركب نيلي
كان والد صبرى موسى تاجرا من دمياط، وقد ولد الطفل فى مركب نيلى، وعمل عاما مدرسا للرسم قبل أن يحترف الصحافة، وبالتأكيد كان لكل ذلك أثر وصدى فى حياته، ربما من أجل هذا صار صبرى موسى رحالة يتتبع الجمال.
صبرى موسى.. الرحالة
لم تكن الرحلة فى حياة صبرى موسى مجرد زمن يقضيه فى مكن ما، ولم يكن من أجل البحث عن الغرابة، بل كان من أجل اكتشاف الذات، فقد كان صبرى موسى يضع خلف مكتبه فى مجلة صباح الخير خريطة لمصر، ينظر إليها طوال الوقت، يختار منها ما ينوى الذهاب إليه، ثم يكتب عنه، يتحدث عما يعرفه حتى إن بدا غريبا وجديدا، كانت له واقعيته المختلفة، وربما لا يصدق الكثيرون أن كثيرا من قصص صبرى موسى استمدها من الواقع من أناس التقاهم فى حياته ورحلاته.
ومن أبرز رحلات صبرى موسى، كانت زياراته إلى منطقة البحيرات، ويمكن القول لقد كان صبرى موسى سبب فى أن الدولة غيرت توجهها من منطقة البحيرات فى شمال مصر، كانت التوجه لتجفيف هذه البحيرات، لكن ما كتبه صبرى موسى جعل جمال عبد الناصر يعيد النظر فى هذه القضية.
لقد أحب صبرى موسى الصحراء، كما أن الصحراء بادلته المحبة أيضا منحته أسرارها، أفادته فى مرحلة مرضه، ففى أخريات حياته أصابه المرض، عانى من جلطة لمدة خمسة عشر عاما، كان تقريبا لا يرى الشارع إلا للضرورة، لذا فقد أفادته الصحراء عندما علمته الصبر، جعلته قادرا على تحمل الصمت، والجلوس فى هدوء، منحته جلدا فى تحمل الألم.
ظل صبرى موسى خمسة عشرا عاما على كرسى متحرك، يتأمل ما حوله، مستفيدا من امتداد الصحراء، التى جعلت مزاجه صوفيا يرى خلف كل شيء بسيط معنى كامنا، حتى الألم واحتماله، صارت له رؤية فيه.
لقد منحته الصحراء روايته الأروع "فساد الأمكنة" لكن عنوان الرواية منحه له البحر، فذات مرة كان صبرى موسى فى الإسكندرية، يقضى الصباح الباكر فى تأمل البحر المتسع، لكن ما إن أطل الصباح بوجهه وبدأت الشمس تعلن عن وجودها حتى بدأ الناس فى التوافد إلى الشط، وراحت الضوضاء تحتل مكان "الهدوء" والصخب بدلا من "الطمأنينة" حينها أطلت فى رأسه جملة "فساد الأمكنة" ورأى أنها مناسبة جدا لعنوان الرواية التى يعمل على كتابها عن الصحراء وأسرارها.
السيناريست صبرى موسى
كان صبرى موسى كاتب رحلات، صحفى، روائى، قاص، وكاتب سيناريو يشار إليه بالبنان، حتى أن سيناريوهات مثل "البوسطجى، وقنديل أم هاشم" تظل علامات فى فن السيناريو، ولا يزال الباحثون عن المتعة والباحثون عن التعلم يرجعون إليهما كلما قصدوا فنا أو تعلما.
وهنا وجب القول إن صبرى موسى لم يأخذ حقه عن هذين العملين، كما ينبغي، كيف ذلك؟
المعروف أن العملين مستوحيان من أعمال الكاتب الكبير يحيى حقى، لكن ما فعله صبرى موسى أنه بث فيهما طاقة جديدة، وجعل اسم يحيى حقى على لسان فئة جديدة من المتلقين هم محبو السينما.
ومما يذكر فى شأن اتقان صبرى موسى لكتابة السيناريو، أنه استضاف صديقا صعيديا فى رأس البر لمدة شهر يتحدث معه ويسأله عن الصعيد وطقوسه وعاداته، دون أن يقول له إنه يكتب سيناريو فيلم "البوسطجى" وذلك كى يأخذ الضيف راحته فى الكلام، ولا يتأثر بفكرة أن ذلك الحديث مقصود منه الاستفادة منه.
ومما يحسب للسيناريو، أنه فى سنة 2019 وبعد عام من رحيل صبرى موسى، قام طلبة فى جامعة السوربون الفرنسية بتقديم مشروع دراسة لهم عن فيلم "البوسطجى" ووجهوا دعوة لصبرى موسى كى يشهد حفلهم، لم يكونوا يعلمون بأنه رحل فى سنة 2018.
بقى جزء مهم نتحدث فيه عن صبرى موسى يتعلق بمكتبته.. إلى أين تذهب؟
نعرف أن صبرى موسى يملك مكتبة عامرة، تحتوى مؤلفات وإهداءات ومقتنيات، هذه المكتبة موجودة ومنها جزء صغير على رفوف، والجزء الأكبر معبأ فى صناديق ورقية، وهو ما لا يليق بكبار مثقفينا ومنهم صبرى موسى، أن ينتهى الحال بكتبهم فى هذا الحال، لذا نرجو من مؤسسات الدولة أن يكون لها شأن فى مكتبات المثقفين، وف كيفية عرضها للقراء والاستفادة منها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة