يحدث أن تكون الحقيقة على بُعد نظرةٍ واحدة منك، لكنك لا تراها؛ لأن وهمًا أقوى سحب عينيك إلى أسفل. ربما بهذا المعنى المُبسَّط للغاية يُمكن تلخيص حكاية فيلم لا تنظر لأعلى (Don't Look Up)، رغم أن الطرح وتأويله يحتملان ما هو أكبر من هذا الإيجاز.
الفيلم الذى طرحته شبكة نتفليكس قبل أيام، بتوقيع المخرج وكاتب السيناريو آدم مكاى، وقائمة تضم حشدًا من نجوم السينما الأمريكية، يبدو للوهلة الأولى مُعالجةً ساخرة للمشهد السياسى الأمريكى، تستند إلى آليات الكوميديا السوداء بقدر من المُباشرة الفجَّة أغلب الوقت؛ لصناعة حالة ترفيهٍ تُلامس حدود المنشور السياسى الزاعق، لكنه من وراء ذلك ربما يحمل دلائل وإشارات أعمق، ليس فيما يخصّ الحبكة ودراما الداخل فقط، وإنما ما يمتدُّ إلى دراما الخارج ويتجاوز رؤية المخرج ومقصوده الأول. يبدو الأمر أقرب إلى قنَّاص مُحترف، لكنه فى غفلة من الثقة المُفرطة أطلق الرصاص على قدميه!
مُلخَّص الحكاية، أن فريقًا علميًّا بإحدى الجامعات رصد جسمًا فضائيًّا "مُذنَّب" يتحرّك صوب الأرض، فبدأ رحلة علمية وإعلامية لإعلان الأمر، لكنه يصطدم بخشونة مع مواقف سياسية تضع مصالح لاعبيها فوق اعتبارات العلم وسلامة الأرض والبشر، وتتزاوج بالرأسمالية فى أوحش صورها زواجًا فاسدًا، ما يتسبَّب فى إفساد الحملة أولاً، ثمّ تطويع العالِم المُتبنِّى لها ثانيًا، وإجهاض مُحاولات النجاة، وصولاً إلى وقوع الكارثة، وفرار المال مع السلطة على مركبة فضائية إلى كوكب جديد.
عمليًّا، يبدو الطرح مُعالجةً مُباشرة لزمن "ترامب" وإدارته. رئيسة الولايات المتحدة تتقمَّص شخصيته، وجونا هيل فى دور مستشار الأمن القومى وكبير موظفى البيت الأبيض أقرب إلى مزيج من إيفانكا ترامب وجاريد كوشنر، أما ليوناردو دى كابريو فيُمكن أن تلحظ بعض سماته فى علاقة الطبيب أنتونى فاوتشى المتأرجحة بالبيت الأبيض إبان أزمة كورونا، وكريس إيفانز يقترب من روح إيلون ماسك واقعًا وأداءً، رغم أن الأخير تبرّع للديمقراطيين بقدر ما تبرَّع للجمهوريين وربما أكثر، كما لو كان مُحاولةً لاختزال علاقة التكنولوجيا وشركاتها الكبرى بالبيت الأبيض ومنظومة الإدارة فى واشنطن. أزمة "المُذنَّب نفسها رمزيّة مُطابقة لجائحة كورونا فى تحوُّلاتها. رفضٌ وإنكار، ثم براجماتية من أجل الانتخابات، وأخيرًا إدارةٌ مُضحكة تسبَّبت فى تفجُّر الأوضاع. هكذا طرح الفيلم الأمر، وهكذا تصوَّر أنه يُعيد إنتاج الماضى القريب سينمائيًّا.
مسيرة المخرج والكاتب آدم مكاى تتضمَّن أعمالاً سابقة، تشتبك مع إدارات جمهورية سابقة، وما أفرزته من سياسات، ومع الرؤية الأمريكية وسرديّتها المعلنة، مثل فيلميه: الكبير القصير (The Big Short) ونائب الرئيس (Vice)، فضلا عن (Anchorman) بجزأيه الناقدين لملف الإعلام بالولايات المتحدة. ورغم أن سوابق أفلامه تشير إلى انحيازات أقرب إلى الديمقراطيين ونزعة اليسار، ويؤكّدها طرحه الجديد بما شيَّده من معمار رمزى بالغ المباشرة، من حيث تمثُّله لإدارة الرئيس "ترامب" فى قالب كاريكاتيرى ساخر، إلا أنه فى زحام استدعاء الرموز والإشارات الناقدة سقط فى التناقض على عكس ما يُريد، وتبنَّى خطابات خصمه بصورة واضحة من حيث أراد أن يُفنِّدها ويطلق عليها رصاصته القاتلة، حسبما تصوَّرَ.
يرى "مكاى" أن هيمنة اليمين المُنفلت بما يحمله من براجماتية واضحة، تُمثّل خطرًا حقيقيًّا على الأمة الأمريكية أولاً، وعلى البشرية بكاملها أيضًا. تلك الرؤية تستدعى إعادة الاعتبار لقيم الديمقراطية بكل تمثُّلاتها، وللإعلام الاجتماعى بوصفه أحدث تجلِّيات المُمارسة الديمقراطية، أو هكذا على الأقل طرحت المركزية الغربية الأمر وروَّجت له فى العقدين الأخيرين. لكن المخرج ورَّط "السوشيال ميديا" فى اللعبة بصورة مغايرة، وأدانها باعتبارها واحدة من أدوات الهيمنة وتسييد رؤية الفاعلين فى السياسة والمال، ورغم أنه يُؤسِّس أطروحته على رمزية تستمد مشروعيتها من سنوات "ترامب"، إلا أنه تورَّط فى تناقضات الرئيس الأمريكى نفسه، الذى دخل البيت الأبيض محمولاً على جناح الإعلام الاجتماعى، وحارب الميديا التقليدية بحساب عبر "تويتر"، ثم بدا مُتشدّدًا للغاية تجاه تلك الوسائط، ومُعتبرًا إيَّاها أداة رئيسية للخداع والتلاعب بالجمهور. قد تكون تلك الرؤية صائبة أو لا، لكن المؤكَّد أن الارتكان إليها لا يجعل "مكاى" مُختلفًا فى الطرح عن غريمه "ترامب"، والأهم أنه يرشق سهمًا ساخنًا فى كبد المركزية الغربية، على الأقل من زاوية أنها لا تُقدِّم بدائل، بقدر ما تُراهن على النوايا فقط؛ مع إيمانها بالوسائل نفسها.
تلك النظرة تتحقَّق بشكل أكبر، فى إيمان آدم مكاى بمركزية الغرب وتفوُّقه. بحسب سرديَّته كانت الولايات المتحدة قريبة من إنقاذ الأرض؛ لولا تلاعب السياسة والرأسمالية، وحينما حاول الخصم الشرقى التقليدي، مُمثّلاً فى روسيا والصين، الاضطلاع بالمهمة عبر محاولة إطلاق صواريخ لإبعاد المُذنَّب، فشل من دون تآمر أو مُواجهة، ورغم ذلك تبقَّت فرصة إضافية للولايات المُتحدة، ولم تغرق الأرض فى وحل الكارثة إلا بعدما أخفقت للمرة الثانية. هنا لا يبدو "مكاى" مُختلفًا عن الجمهوريين فى تصوُّراتهم، ولا عن أُطروحات سينما المُنقذ الأمريكى الذى لا حياة للعالم إلا فى حِماه، وكل ما فى الأمر أنه يختلف على هوية من يركب المكّوك أو يضغط مفتاح الإطلاق، وليس مع فلسفة الوصاية ولُبّ النظرة المُتسلِّطة لدى مُنظِّرى المركزية الأوروبية.
فنيًّا، يتطلَّع الشريط إلى الترفيه أكثر من التفكيك، وإلى أثر المنشور السياسى أكثر من الفعل الثقافى والحَفر فى تُربة الوعى. لهذا استند إلى سيناريو بسيط لا تغيب عن حبكته المُفارقات الرمزية، وكولاج المواقف المُشابهة لما حدث سابقًا بالحقبة المُستهدَفة. التمثيل عادى وربما يكون مُتواضعًا، باستثناء بعض مشاهد ميريل ستريب وجونا هيل وكريس إيفانز وروب مورجان. الموسيقى مُجرَّد مُصاحَبة مُريحة للسرد من دون رهانات كبرى، والتصوير والإخراج انحصرا فى جماليات الطبقة الواحدة دون عُمق أو امتدادات، والمونتاج حافظ على تدفُّق الحكاية لكنه تورَّط فى الرطانة والملل أحيانًا، وأخيرًا لم تكن المًؤثِّرات مُلفتةً - رغم طبيعة مشاهد الفضاء والفوضى والدمار - أولاً لأن الفيلم لا يُقدِّم نفسه عملاً مُبهرًا أو خيالاً علميًّا، وثانيًا لأن الفريق ارتضى أن يتحقَّق رهانه بالشجب والإدانة فقط، مع قَدر من "التلسين"، أو لنقل "الردح" بالمعنى الشعبى، وهو ما لم يخلُ للأسف من بلاهةٍ واضحة، أو مُكايدةٍ ساذجة فى كثير من المواقف. الخلاصة أننا إزاء فيلم قد يكون مُسلّيًا، وربما يمتص غضب اليسار ويُثير حفيظة المحافظين، لكنه قد لا يعيش أطول من زمن الشريط.
الخصومة البادية بوضوح فى تناول الحكاية منذ مُفتتحها، ستراها مُوزَّعة على امتداد الشريط عبر إشارات مُزعجة من فَرط المباشرة والسذاجة. المذيع المحافظ صاحب الشهرة العريضة رغم سطحيّته الظاهرة، وزميلته محدودة القدرات المُتفاخرة بعلاقتها الجسدية برئيسين سابقين. عالمة الفلك النابهة مُرتبكة الوعى والعاطفة، الحبيب الانتهازى، الزوجة المُنسحقة، الأبناء الساذجون، مسؤولة "ناسا" المُنقادة، الجنرال الغبى الجشع، المواطنون البُلهاء المفعول بهم دائمًا. الخصم الشرقى الحاقد وفاقد الأهلية، إذ لم يكن هدفه الأول من محاولة إطلاق الصواريخ إنقاذ الكوكب، وإنما حرمان الولايات المتحدة من ثروة المعادن المُنتظرة؛ بعدما استبعدته منها. هكذا تبدو كل النماذج سيّئة ومُشوَّهة، بينما يغيب المُقابل أو مُعادل تلك الصورة، ولا يحضر خصوم الإدارة السياسيون حضورًا ملموسًا. كأن المشهد خليط من الشياطين، وكل ما دونهم ملائكة. وما دون ذلك ليست برامج أو قِيمًا وأطروحات مُغايرة، وإنما وجوهًا مُشابهة ستحل بدلاً من وجوه، وأيديولوجيا اختُبرت من قبل وما تزال فى الاختبار دون نجاح. ومن وراء كل ذلك ترسيخ لفكرة المركزية، وطوق الإنقاذ، وذُروة الحضارة الأمريكية، التى لا أمل للعالم إلا فى حياتها وطُول بقائها.
مُفارقة أخرى تبدو ملفتة، وربما مُزعجة أيضًا، تخص المخرج بانحيازاته يسارية النزعة، والشبكة المُنتجة بما تتبنَّاه من خطابات تقدُّمية. فبينما يُؤسِّس الفيلم لحالة هجاء سياسى تستهدف إدارة "ترامب" بصورة واضحة فى مُباشرتها، أعاد بناء الحكاية على شخصية نسائية، ميريل ستريب أو جانى أورليان رئيسة الولايات المتحدة، وهو رهان لم يقترب منه الجمهوريون فعليًّا حتى الآن، ويُمثّل واحدةً من رسائل التسويق السياسى لدى الديمقراطيين، منذ خوض هيلارى كلينتون سباق الرئاسة وصولاً إلى اقتناص كمالا هاريس منصب النائب فى إدارة جو بايدن. تلك الصورة - رغم كاريكاتورية الحالة الدرامية - تبدو قفزة رجعية واسعة، وضربًا تحت حزام منظومة القيم الأمريكية، يُستعاض عن دلالتها المُباشرة بتقديمها فى قالب رمزى مُغلَّف بالكوميديا، لكنه لا ينسجم رغم ذلك مع سياق عام حرَّكه الذكور، سواء فى الواقع، أو فى الحكاية المُتخيَّلة.
لا يبدو "مكاى" وفريقه راضين عن الجمهوريين، لكنهم يُسلِّمون فى العُمق بما يُؤمنون به. يُحاولون تفكيك هيمنة المحافظين وشركاتهم المُوالية، بينما يُرسِّخون لفكرة المركزية الغربية ووصاية الولايات المتحدة على العالم، يكرهون الإعلام التقليدى لكنهم لا يُحبّون "السوشيال ميديا" أيضًا، ويستفيدون من كل ذلك ثم يتعالون عليه وعلينا، ويبذلونه من أجل إعلاء سرديّة النورانية والسموّ المعرفى والأخلاقى. وللأسف يتوقّعون أن تمتزج كل تلك التناقضات وتنسجم معًا، وأن يخرج المشاهدون مُقتنعين بالسردية الجديدة، بينما لا تستند إلى منطقٍ ولا تُقدِّم طرحًا مُتماسكًا. وهذا مأزق المركزية الغربية وتناقضها الأكبر، أنها ترى نفسها منطقًا وقانونًا، فتقفز دائمًا خارج الاشتراطات اعتقادًا بأنه لا ضرورة للالتزام بما تسنُّه وتفرضه على الآخرين. هكذا تعامل صناع الفيلم؛ ولعلّهم لهذا سقطوا فى بلاهة التلسين، ولم ينجوا من تناقضات الخصوم.