شهادةٌ إنسانية ومهنيّة فى بضعة أسطر، استدعت قليلا من الإشادة وكثيرا من الاستهجان والتجاوز. لم يتوقّف المُتجاوزون أمام أية اعتبارات فنيّة تخص طبيعة المهنة، قدر ما أسقطوا تصوّراتهم الذاتية على الشهادة والمشهود له. بدا الأمر أقرب إلى "حوار طرشان"، وإشارةً إلى أننا نعيش عالمًا يعجُّ باعتباط المواقف والأحكام، وكلّ فريق من المُوزَّعين على رقعة اللعبة يحبس نفسه فى تصوّراته الخاصة، ولا يريد أن يرى الصورة خارجها!
لفت نظرى ما سجّله الكاتب الصحفى أنور الهوارى على صفحته فى "فيس بوك"، قبل ثلاثة أيام من رحيل ياسر رزق المفاجئ. الرجل المحسوب على المعارضة الآن قال فى "رزق" ما يخص رابطا شخصيًّا لا قُوامة لأحد عليه، وهو ابن علاقة مباشرة وتركة إنسانية صنعتها المواقف والسنوات؛ لكنه إلى جانب ذلك شهد لصحفى لامع جمعته به المهنة والزمالة والاطلاع الوثيق لأكثر من ثلاثة عقود. المفاجئ أن فريقا من المحسوبين على الصحافة والثقافة وجد فى الشهادة الموجزة فرصةً لتصفية حسابات شخصية، وتفريغ طاقةٍ من الكُره المخزون فى أرواحهم تجاه شخص لم يكن حاضرا فى مشهدهم، ولم يرَ المكتوب - إيجابيا كان أو سلبيا - ولعله وقتها كان فى محنةٍ صحيّة حملته إلى جوار ربه بعد ساعات قليلة من كلّ هذا الحوار العبثى!
يمكن جدا ألا تكون محبوبا لشخص أو طائفة؛ لكنّ العاقلين وحدهم يعرفون أهميةَ ألّا يجرمنَّهم شنآنُ قومٍ على ألّا يعدلوا. المؤكد أن ياسر رزق لم يكن معنيًّا طوال حياته بأن يحلَّ فى موضع قبولٍ من الجميع، وليس هذا دوره، ولا طبائع الأمور فى التمايز واختلاف البشر، لكنه اجتهد فى أن يكون على قدر مهنته، وأن يحترم ما يراه صائبا على وجهٍ من التفانى والإتقان. صديقُ الكلِّ لا صديق له، وفقير الأعداء لا قيمة له أيضا. المهم أن تكون محلَّ احترامٍ من الآخرين، وأن تظلَّ مُحترِمًا لهم. كلُّ من عرف ياسر رزق يشهد باحترامه للمُخالفين قبل الموافقين، وهو احترامٌ ينبع من تفهُّم الاختلاف وقبوله والإيمان بحقّ الآخر فى أن يُمارس وجودَه كيفما شاء. العاجزون عن الفهم والقبول واستيعاب أن العالم مُزدحمٌ بمن لا يشبهوننا، يظلّون عاجزين وحدهم عن ممارسة فعل الاحترام، أو عن انتزاعه من الآخرين!
التجاوز الذى رأيته فى المنشور، وما أُضيفَ له من كيدٍ أو شماتة مارسهما المُختلفون مع ياسر رزق بعد رحيله، لا أراه بكامله إلا فى حيِّز "خُصومة الموهبة". كان الرجل موهوبا كبيرا، وصحفيًّا مُجيدا، وصاحب رؤية ورأى لهما جدارتهما وإن اختلفت معه. الذين كرهوا ياسر رزق يُحبّون غيرَه أقل منه قيمةً وموهبة، ويقبلون منه الاختلاف نفسه، وكأنَّ الأمر فى شأن الراحل كُرهٌ للتحقُّق وخصومة مع الموهبة والنجاح. يُمكن أن يشعر مُنافسوك بالغيرة فيسقطون عليك انحطاطَ أقدارهم، وقد يغيظ مُخالفيك أن تملك من المهارة والاقتدار ما يردُّ سَفهَهم أو يُسقط حُججَهم أو ينصر قضاياك التى يُعادونها. بعض الصحفيين محدودى الموهبة قد يُمارسون غيرتَهم الشخصية تحت لافتاتٍ عامة، وكثيرون من الإخوان والأصوليين والمُختلفين مع ياسر رزق يُؤلمهم أن يكون خصمهم موهوبا. الموهبة والإتقان أشدّ ما يستجلب الضغينة من أصحاب الأهواء، وأكبر ما يدعو للإجلال من حَمَلة القيم وأصحاب المبادئ الحقيقيين.
لم أكن صديقا أو قريبا إلى ياسر رزق، ولم أعرفه شخصيا باستثناء مُشاهداتٍ عابرة من البعيد؛ لكننى أعرف قدره وأحترم مسيرته، وأغتبط بكلِّ اختلافٍ مع رأى له قدر فرحى بكل رُؤية تشاركناها. يمكن أن أُعدِّد فى مآثر الرجل وآيات نجاحه، إذ هو المُحرر النابه، ورئيس التحرير الناجح، والنقابى اللامع الذى لم يُزايد أو يُقامر بالمهنة وبيتها، أو يرهنهما لألاعيب السياسة أو مصالح تيَّارٍ من التيارات. وقبل هذا هو أنبغ أبناء دفعته وأهم صحفيِّى جيله. لم يكن مُمكنا أن يحقَّق كلَّ هذا لولا موهبته الكبيرة، ولم يكن طبيعيا أن يحوز تلك الموهبة دون أعداء. المشهد مفهوم من باب المُماحكة وما يعتمل فى نفوس البشر؛ لكن رغم الفهم يظلُّ أردأ أنواع الخصومة والعداء واللدد "اختصام الموهبة" والتحامل عليها وغمطها حقّها؛ لا لشىءٍ إلّا أنها لم تلعب لعبتَنا أو تُوافق أهواءنا!
كثيرون من الناس يُحبّون ويكرهون على أرضية النوازع والانحيازات المُسبقة. انظر فى طوابير اليسار واليمين؛ لترى من يرفعون شخصًا أو فريقا فوق قدرهم؛ لأنهم يُشاركونهم الموقف نفسَه أو يقولون ما يُحبّون سماعَه. أفّاقون ومُدّعون ومُنتحلو مكانةٍ لا يليقون بها وجدوا قبولاً؛ لأنّ أصدقاءهم وأبناء جِلدتهم صرفوا لهم فوق حقّهم من أرصدةٍ لا يملكونها، ولقاء ذلك موهوبون ومُجيدون يأكلهم التجاهل والإنكار؛ لأنهم اختاروا أن يعيشوا نغمةً مُتّزنةً ومُهندمةً وسط نشازٍ مُهيمن. أباطرةُ اليسار منذ الستينيات وما قبلها صنعوا نجوما من أنصاف مُثقّفين وفنّانين؛ لأنهم كانوا ظلالاً باهتة لشخوصهم أو أبواقًا أيديولوجيّة لتيّاراتهم، وأحزاب اليمين روَّجت لمُلوّثين ومشبوهين دون مُبرّرٍ إلّا مُشاركتهم بطاقة العضوية أو خاتم الانتماء. أن تكون موهوبا دون شلّةٍ أو ظهير لا يعنى أن تخرج من رحمتهم فقط، ولكن أن تستجلب لنفسك العداوة؛ لأنك خصمٌ لا يُحبّه "خصوم المواهب"، لا سيّما المُستقلّةَ منها عن التحزُّب ومنطق العصابات!
يُمكن أن تفتحَ القوس وترى تجلّيات اختصام الموهبة على اتّساع عينيك. فى الفن والأدب والثقافة والصحافة والسياسة وغيرها. يقف المُتحقّقون صالبين أعوادهم، وينفث المُحتالون فحيحهم عاصفةً غايتها أن تقضّ جدران الموهبة؛ حتى يشعر الأقزام أن لهم طَولاً ومهابة. لك أن تحبَّ ياسر رزق وغيره من الموهوبين، أو أن تختلف معهم، أو حتى تُمارس الكُرهَ فيهم، لا أحدَ يدّعى أنه يُقدّم رؤىً سماويّة معصومة، لكن المهم ألا تكون خصمًا للموهبة، لأن تلك الخصومة المُتهافتة لن تُغيّر واقع الأمر، ولن تهدم عُلوّ العالين، ولن ترفع قدرًا حطّت منه الوقائعُ والممارسات وقسمةُ الله فى الأرزاق والمواهب. مَنْ اختصموا موهبةَ ياسر رزق كشفوا حجم ضحالتهم، وقفزهم على ما يُتاجرون به من شعارات المعرفة والجدارة والإتقان، ولم يخسر الرجلُ شيئا بعدائهم. رحم الله الموهوب ياسر رزق، ولا رحم خصومَ الموهبة!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة