ندفع فاتورة التغيُّرات المناخية ولسنا سببًا فيها. يتطلَّب الظرف الراهن وضوحًا فى العرض، ومُكاشفةً فى تحميل المسؤوليات، بالضبط كما فعل رئيس الوزراء مصطفى مدبولى، فى كلمته بجلسة التغيّرات المناخية ضمن فعاليات اليوم الثانى من منتدى شباب العالم؛ لكنّ تعليق الأجراس فى رقاب أصحابها وصانعيها لا ينفى إزعاجها للجميع، أو التزامنا العام بالعمل معًا من أجل ترشيد ضوضائها. من هنا اتَّسعت كلمة "مدبولى" لتصل هموم العالم بإجراءات مصر، وتنتقل من حيِّز التشخيص إلى وصف الدواء، انطلاقًا من أن بلدًا فقيرًا وناميًا يستشعرُ المسؤولية، ويعمل جاهدًا فى إطارها؛ ومن ثمَّ يتعيَّن على المسؤولين الفعليِّين التقدُّم خطوات إلى الأمام، وتحمُّل أنصبتهم من العبء بما يوازى منافعهم من صناعة الأزمة. الأمر نفسه أكّده الرئيس بمزاوجته فى العرض بين الجهود المصرية، وما تسبَّبت فيه طفرة الانتقال الصناعى بالغرب من ضغوط قاسية على البيئة، ضاربًا المثال بمعاناة الولايات المتحدة من روث خيول العربات قبل قرن وعدة سنوات، ومعاناة العالم بكامله الآن من قفزة "فورد" - الجادة والمفيدة وقتها - ومؤكِّدًا أن الإنسان رغم كل تحدِّياته وتورُّطه أحيانًا فى هدم عالمه، يظلُّ الأقدر - وربما الأوحد - فى مضمار البناء والإصلاح.
يستكشف المنتدى معالم الطريق من جلاسكو إلى شرم الشيخ. يقف بين قمَّتين عالميَّتين للمناخ باحثًا عن أزمة سابقة على كل تلك القِمَم. أزمة بدأت من رحم النزوع إلى تغيير الواقع دون قيدٍ يُرشِّد ذلك، ومن انفراد بالقرار وسط زحامٍ تغوَّلت فيه دولٌ لم تنضبط وفق سياق جامع وعادل، يمنح الجميع باعتدال ويصون وجودهم برُشد. بزغت الأزمة مع بزوغ الثورة الصناعية، لكنها استفحلت بين الحربين العالميّتين وبعدهما، وفى حاضنة نظام دولىٍّ معيب، سواء عصبة الأُمَم أو مُنظّمة الأُمَم المتحدة لاحقا. هذا الانفلات كان سببًا فى تقويض كثير من محاولات التوافق العالمى، ثمّ تعطيل اتفاقيّتى كيوتو وباريس بعدها، وتحجيم الوصول إلى تطلُّعات تثبيت مستوى الغازات الدفيئة أو الحدِّ منها، بل تطوَّر الأمر إلى مُجابهة حكوماتٍ لهذا المسار علنًا، وخروج أخرى منه دون مُساءلةٍ أو ردع. الأرضيّة التى تأسَّس عليها مسار العمل من أجل البيئة ليست صُلبةً بما يكفى، وأدوات النظام العالمى لإنفاذ إرادته محدودةٌ وقاصرة، ولا أمل ما لم يتحرَّك الجادّون من جماعات البيئة والدول الأكثر تضرُّرًا دون منفعة؛ من أجل لَجم المُنفلتين، ووضعهم أمام مسؤوليّاتهم. هنا يبرز دور المُكاشفة، وتتعاظم أهميّةُ الرسائل الصادمة وبلاغة المُباشرة.
هناك دائمًا خطاباتٌ لا تصلح فيها المُواربة، ولا تخدم أهدافها. ربما كان المخرج المسرحى خالد جلال واعيًا بذلك إلى درجةٍ جيّدة وهو يصيغ رؤيته لعرض افتتاح مسرح شباب العالم بالمُنتدى. تلك النقطة لبُّ الربط بين المناخ والمسرح. اختار العرض أن يغوص فى أزمة الراهن/ جائحة كورونا، من حيث كونها أزمةً عالمية وتحدِّيًا تذوب فيه الجغرافيا واللغات؛ لكن المقام لا يتَّسع لجماليات الغموض والتلميح والتعمية. يُمكن أن تصل إلى الفكرة من ألف طريق، لكنّك لن تُحقِّق الهدفَ المطلوب فى سرعته وتأثيره إلا من طريق واحدة. نعيش معًا، وينفرد كلٌّ منّا بمزايا ومنافع، لكننا نتقاسم جميعًا جريرةَ أفعالنا بالعدل. لا يهمّ على الإطلاق مَنْ تسبَّب فى الوباء أو مَن تربَّح من ورائه، فما لم نتَّحد فى مواجهته؛ ستتحوَّل كلُّ المكاسب إلى خسائر، وترتدُّ سهامُ الصيد إلى صدورنا. سنكون جميعًا فرائسَ لا صيَّادين.
من تلك الرؤية انطلق خالد جلال، مُستعينًا بمُمثِّلين من أربع عشرة جنسيَّة، وجُملٍ وحواراتٍ شبه مُتطابقة فى معانيها. أسَّس معمار مسرحه على تقشُّفٍ شديد فى عناصر الصورة، مُوحِّدًا الملابس بين الجميع تقريبًا، باستثناء مَن يهجو جشعهم وتجارتهم بالأزمة، أو من أراد تخليدَهم عبر مُوتيفاتٍ بسيطة تُعبِّر عن وظائف، وترمز إلى أدوارٍ لا إلى أفراد أو نطاقات جغرافية وثقافية، مع أداءٍ شبه مُحايد للإضاءة، عِمادُه إنارةُ المشهد بظلال تعبيريّة وتأثيريّة، وتوظيف محدود لـ"الألترا" من أجل مُخاتلة الأعين والتركيز على مفرداتٍ حملتها الملابسُ من كل اللغات. الموسيقى سعت مع شريط الصوت إلى ترجمة المُشترك بيننا جميعًا، من خلال مُزاوجةٍ بين الإنشاد والترانيم مع تيمات أخرى، وغناء المُمثّلين بلُغاتهم، لكنّ العرض لم يتخلّ عن جماليّة المُباشرة ودلالتها فى أغنياته المُنغَّمة. رسالة تبدو بسيطة للغاية فى ظاهرها، لكنها تُحاول وضع الجميع أمام مشهدٍ كان واحدًا ومُتكرِّرًا فى الزمان والمكان، وللأسف لم يرَه الجميعُ وسط انشغال كلِّ بلدٍ أو فريق أو فرد بنفسه. المُباشرة هنا أداةٌ لتوحيد الهَمِّ، والصراخ فى وجه العالم، وإيصال رسالةٍ واضحة بأننا نختلف ونتمايز فى كثير، ويجمعنا كثيرٌ أيضًا. الرسالة واضحة مهما تعدَّدت لُغاتها، والمهمّ أن نسمع، وأن تتَّسع قلوبُنا وعقولُنا لنشعر ونفهم ونعمل معًا.
كان رئيسُ الوزراء واضحًا فى إعلان الموقف. ندفع فاتورة المحنة المناخيّة ولسنا مسؤولين عنها، ونعمل من أجل ترشيد آثارها، بينما يجب على آخرين أن يُبادروا بذلك. الرئيس أكّد الأمر بقوله إن مصر تحرَّكت لمُجابهة الانبعاثات الكربونية فى وقت لا تُمثِّل فيه واحدةً من مراكزها، بل إن نصيبها من الأمر لا يُقارَن بالدول الكبرى. جاءت الرسائل واضحةً وكاشفة، تُشخِّص الأزمة وتبحث عن حلولٍ وتتحمَّل حصَّتها منها، لأن الأمر لا يحتمل مزيدًا من الإنكار وتفلُّت كلِّ طرفٍ من مسؤوليَّته. وبالمثل فعل خالد جلال فى عرضه المسرحى. صرخ فى وجه العالم بانكشافٍ وحِدَّة. لم يَبنِ رسالته على حبكةٍ وتسلسلٍ مُنضبطٍ بمعايير الدراما. أعاد صياغة المحنة فى خطاباتٍ مُباشرة ولوحات مُنفصلة يُمكن أن يُعاد ترتيبها أو يُحذف بعضُها، لكنها تتضافر معًا لإكمال المرثيَّة وسرد المأساة. ربما ركَّز على فضاء العرض وجمهور الخشبة المُباشرين،؛ فأغفل أمورًا وتفاصيل تتَّصل بالماكياج وإضاءة العُلبة بشكل أثَّر على النقل التليفزيونى، لكنه كان مهمومًا بأن تكون الصرخة مُباشرة، ومُعبِّرةً عن حجم الضيق وما غلَّفته من أجواء قاتمة. بعيدًا من الكلمات والفنيّات، تبقى أزمة العالم الراهنة موصولةً بانسداد قنواته، وعجز مُؤسَّساته، وانفلات الدول الكبرى من مسؤوليَّتها عمَّا سبَّبته من أضرار!
فى تغيُّرات المناخ، كما فى جائحة كورونا. الأطراف التى كان واجبًا عليها المبادرة لم تفعل، والضحايا والمُتضرِّرون زادت خسائرهم. قد لا يكون الوباء مسؤولية طرفٍ بعينه؛ لكن الدول الكبرى عليها التزام أخلاقى وإنسانى تُرتِّبه الوفرة وقُدرة الأسواق، وحقُّ الفوائض والثروات التى نزحتها من البلدان الفقيرة، بالاستعمار أو الاستغلال، أو عولمة الاقتصاد واستحلاب نواتج الدول الصغرى بغطاء النقد المُهيمن. كان واجبًا على تلك الدول أن تُبادر بالمُجابهة، وأن تحمل معها الضعفاء وغير القادرين بدلاً عن الانغماس فى مصالحها فقط، كما كان واجبًا عليها التصدِّى لأزمة المناخ؛ لأنها المُتسبِّب المُباشر والأكبر فيها. هنا نقف على محكٍّ كاشفٍ: إمَّا أن تضطلع المُؤسَّسات الدولية وركائز النظام العالمى بمهام جادة وحقيقية فى استعادة التوازن، وكَبح جماح القوى المُنفلتة، أو تفقد جدارتها بالبقاء والقبول - ولو معنويًّا - لدى الدول الصغيرة، وإمَّا أن تأخذ حكومات العالم الأول بناصية المسؤولية، أو يبقى الأمر غطرسةً غير مُبرَّرةٍ، ويستمر تفاقم الأوضاع. العالم لا يحتمل مزيدًا من ألعاب المُراوغة والهروب بالمكاسب دون التزامات. الجميع باتوا يُدركون هذا، والدول النامية تُترجم الإدراك عملاً، ويبقى أن يُصبح الكبار كبارًا فعلاً، لا بالقوّة ولا بفرض الأمر الواقع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة