سنوات ما بعد الحملة
بدأت مصر تعيش سنوات من التصارع على الحكم بين القادة الجدد من شباب مشايخ الأزهر الذين أفرزتهم مقاومة الحملة الفرنسية، والمشايخ الكبار، إلى جانب المماليك الذين بدأوا فى العودة من جديد، بعد سنوات من العزلة، وسط اضطرابات هنا وهناك تعم أرجاء المعمورة، وعلى مدار أربعة أعوام فقط (من 1801 حتى 1805) تولى حكم مصر ثمانية حكام وهم "ناصح باشا"، "كشك حسين باشا"، "خسرو باشا"، "طاهر باشا"، "أحمد باشا"، "على باشا جزائرلي"، و"خورشيد باشا" .
ويمكننا أن نتأمل ضخامة الصراع الذى تعيشه مصر، حينما نعرف أن الحكام الثمانية الذين حكموا مصر فى تلك الأعوام قتل منهم ثلاثة لعجزهم عن دفع رواتب الجند، وهرب منهم ثلاثة، وتولى "أحمد باشا" الحكم ليوم واحد فقط فى عام 1803؛ فأى صراع تئن منه مصر، وأى وضع تعيشه.
وأحدثت الحملة الفرنسية فى المجتمع المصرى فى ثلاث سنوات فقط، زلزالاً اجتماعياً، لا نزال نعيش تباعاته حتى يومنا هذا، فقد رأى المصريون فى الحملة علماً غير ما يعرفون، وعلماء غير ما يعهدون، وأدركوا خطورة ذلك عليهم، ولعل ما رصده أحمد هيكل فى كتابه "تاريخ الأدب العربى الحديث" حول حالة الأدب قبيل الحملة الفرنسية كانت تعبر عن الحالة المتردية التى وصلت إليها الثقافة بشكل عام، إذ يقول "..أصبح الأدب فى حالة من السقم تقارب الموت.. فكانت تمثله نماذج نثرية وشعرية هزلية، ليس وراءها أى صدق إحساس أو فنية تعبير ... تغطى ركاكتها فى أكثر الأحيان ألوان من البديع، كثيراً ما تبدو كأكفان ذات ألوان وتطاريز، تلف أجداثاً وعظاماً نخرة".
وأمتد تأثير الحملة إلى مصر والغرب على حد السواء، فقد وجدنا علماء الأزهر يستفقون من غفوتهم، حينما عبر الشيخ حسن العطار عن ذلك بقوله "..إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها ويتجدد ما بها من العلوم والمعارف". وعلى مستوى الغرب كانت الحملة إيذاناً بتحول الفن الثورى الفرنسى إلى الفن الممتزج بالرموز المصرية، والتى أسرف الفرنسيون فى استخدامها لعقود طويلة، فضلاً عن زيادة الولع الأوروبى بمصر وحضارتها وكنوزها التى تغطيها الرمال من صحراء الجيزة حتى أرض السودان.
كما أفرزت مقاومة الحملة الفرنسية، من غمار الناس وصغار مشايخ الأزهر، رقباء جدد على الشعب المصرى ومصيره، فكل منهم يريد أن يتصدر المشهد -وما أشبه الأمس بأول البارحة-.
وصاحب خروج الحملة، حالة ضبابية حول مصير اول مؤسسة ثقافية، تقام على أسس المؤسسات الثقافية الحديثة، وهو "المجمع العلمي"، والذى يمثل نموذج عملى يحتذى به حتى يومنا هذا فى تطبيق ما نعرفه اليوم اصطلاحاً بـ "القوة الناعمة"، وكيف أن الثقافة أصبحت تتعدى حدودها لتشمل كافة مناحى الحياة، لذلك فأننى أميل إلى أن إنشاء المجمع العلمى فى 20 أغسطس 1798، هو تاريخ ميلاد المؤسسة الثقافية المصرية الحديثة -حتى لو اختلفنا مع الحملة الفرنسية-.
فسرعان ما كتب لهذه المؤسسة الوليدة التوقف، توقف أشبه بحالة الموت والتى استمرت فى طى النسيان حتى ولاية سعيد باشا، والذى أعادها للحياة مرة أخرى عام 1859، باقتراح قدمه له كلا من الفرنسى الشهير "أوجست مارييت" والسكرتير الأول للوالى "الفرنسى كوينج بك"، وشارحا للوالى الفوائد التى سيحققها عودة هذا الصرح الثقافى المهم.
وكما عودنا التاريخ، فإن لحظات التغير الكبرى، تولد وسط الأزمات التى تعيشها الدول، وكان كل ذلك ينبئ بميلاد قائد جديد، لتنشق الأرض عن "محمد على سرششمة"، وسرششمة اسم رتبة فى الجيش العثمانى تعنى قائد مجموعة صغيرة من الجند، ويتحمس، كبار العلماء والذين يمثلون طبقة الفكر آنذاك، ليقوم العلماء وعلى رأسهم السيد عمر مكرم ويتم مبايعته على تولى أمر مصر، بعد أن فاض بالمصريين من المماليك الكيل.
ليعلن اسم الألبانى "محمد على" والياً على مصر، ذلك الداهية عريق الماكر، صاحب الخامسة والثلاثين عاماً، والذى استطاع بمكر ودهاء مع رقابة صارمة للأوضاع، تثبيت قواعد ملكه، ومع كل يوم يُزيد من إطباقه على الأمور، ليخوض فى بداية فترة حكمه حربًا داخلية ضد المماليك والإنجليز إلى أن خضعت له مصر بالكليّة، ثم خاض حروبًا بالوكالة عن الدولة العثمانية فى جزيرة العرب ضد الوهابيين وضد الثوار اليونانيين الثائرين على الحكم العثمانى فى المورة، كما وسع دولته جنوبًا بضمه للسودان. وبعد ذلك تحول لمهاجمة الدولة العثمانية حيث حارب جيوشها فى الشام والأناضول، وكاد يسقط الدولة العثمانية.
ولاشك أن تولى محمد على حكم مصر كان ميلاد عصر جديد، بدأ بالإصلاح السياسى الذى له ضمن الاستقرار النسبي، ومنها انتقل إلى مرحلة جديدة من الإصلاح شملت كافة مناحى حياة المصريين، واستمرت الثقافة فى عزلتها تصارع البقاء طيلة سنوات حكمه الأولى، حتى عصر "البعثات العلمية"، والذى أحدث انقلاباً فكرياً وثقافياً فى المجتمع المصري، لم يتوقف حتى يومنا هذا، وكان من أبطالها الفرنسى آدم فرنسوا جومار محرر كتاب وصف مصر، وعضو المجمع العلمى والمشرف على الشئون التربوية والثقافية بالحملة الفرنسية.
بدأ عصر البعثات العلمية فى عام 1813، بعد ثمان سنوات من تولى محمد على حكم مصر، حين انطلقت البعثة العلمية الأولى إلى إيطاليا لدراسة الطباعة والفنون العسكرية وبناء السفن والهندسة والتى لم يعرف عددها ولا أفرادها إلى واحد فقط وهو أحمد باشا فايد؛ فكيف ساهمت تلك البعثات فى إعادة المؤسسات الثقافية إلى الواجهة مرة أخرى؟. ومن هم رجالها؟.