أمر مؤسف أن تتناول شريحة واسعة من الناس الأزمة الأوكرانية بعد إطلاق الرئيس الروسي لعملية عسكرية داخل البلاد بنوع من السخرية والسطحية خلال الحديث عن اللاجئين واللاجئات الذين لن يجدوا لهم مكان آمن، وكأن الحروب التي تؤدي إلى خراب ودمار بعض الدول أمر يدعو للفرح والسعادة، ولا يدرك هؤلاء حجم التداعيات الوخيمة على العالم نتيجة التصعيد بين موسكو من جهة وكييف التي تحظى بدعم من أمريكا وحلف الناتو.
لمن لا يعرف أن الأزمة بين أوكرانيا وروسيا بدأت منذ سنوات وتحديدا عقب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 وتصاعدت الأمور تدريجيا خلال الأسابيع العشر الأخيرة بعد اعتزام أوكرانيا الانضمام لحلف الناتو، وهى الخطوة التى تؤدى حال اتمامها بإمكانية وجود انتشار عسكري غربى على الحدود الروسية، ما اعتبرته موسكو بطبيعة الحال تهديداً لأمنها القومى وتمسكها برفض تواجد أي قوات حلف الناتو على حدودها.
الجانب الأوكرانى ممثلا في رئاسة الجمهورية ترى أحقية البلاد في طلب الانضمام إلى حلف الناتو باعتبار أوكرانيا دولة ذات سيادة دون الالتفات إلى التداعيات الوخيمة لذلك، في المقابل تريد روسيا تعهدًا ملزمًا قانونًا بأن الناتو لن يتوسع أكثر، وهو ما عبر عنه نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف قائلاً في وقت سابق: "بالنسبة إلينا، من الإلزامي تمامًا التأكد من أن أوكرانيا لن تصبح أبدًا عضوًا في الناتو"، ونوه بوتين من أن روسيا "ليس لديها مكان آخر تتراجع إليه"، وقال: "هل يعتقدون أننا سنبقى مكتوفي الأيدى؟".
الرئيس الروسى فلاديمير بوتين اختار التوقيت الزمنى المناسب لتنفيذ العملية العسكرية التي تأتى في ظل صعوبات مالية وتحديات كبيرة تواجه دول الاتحاد الأوروبي بشكل عام والدول الأعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) بشكل خاص، فضلا عن انشغال الولايات المتحدة الأمريكية بالتطورات في قارة آسيا وخاصة مع تعاظم وصعود التنين الصيني القادم بقوة على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، وبالتالي سيكون من الصعب على واشنطن المواجهة على جبهتين منفصلتين في وقت واحد وهو ما يكشف مدى دهاء موسكو في توقيت العملية.
فيما تجاوز سعر برميل النفط في العالم حاجز الـ 100 دولار خلال الساعات الماضية وهو ما سيكون له تداعيات اقتصادية كبيرة ستؤدي لموجة ارتفاع في الأسعار في العالم، فضلا عن أزمة الغذاء التي يمكن أن تضرب عدد من الدول نتيجة قلة عدد الصادرات من القمح الذي تستحوذ روسيا وأوكرانيا على أكثر من رفع كمية القمح المصدر إلى دول العالم، وكشفت شبكةCNBC الأمريكية أن البلدين يستحوذان على 29% من تجارة القمح العالمية، وتمثل صادرات روسيا من القمح إلى العالم نسبة 17% من إجمالي تجارة القمح، فيما تعد أوكرانيا خامس أكبر مصدر للقمح على مستوى العالم حيث بلغت تجارة القمح العالمية في هذا الموسم نحو 44.1 مليار دولار.
كل ما سبق يؤكد أن التطورات الأخيرة في أوكرانيا مع استمرار العمليات العسكرية الروسية يشير إلى تضرر الدول الأوروبية بشكل خاص التي ستتعرض لأزمة طاقة نتيجة الحرب مع ارتفاع متوقع في أسعار السلع والمواد الغذائية، فيما ستتأثر دول الشرق الأوسط وتحديدا الدول العربية التي تستورد القمح من روسيا وأوكرانيا وعليها البحث عن بدائل أخرى خلال الفترة المقبلة.
أما بخصوص الجالية المصرية والطلاب الدارسين في أوكرانيا سيكون عليهم الحذر الشديد في ظل التصعيد العسكري والقصف العشوائي الذي تتعرض له بعض المدن، وهو ما يستلزم متابعة الارشادات التي تصدرها وزارة الخارجية المصرية والتعاطي معها بشكل سريع إلى حين التوصل لسبل إجلاء المصريين في ظل تحديات صعبة منها القصف العنيف وإغلاق المجال الجوي الأوكراني وستكون هناك مخاطرة في نقل مواطنينا عبر الحدود البرية، ويجب أن يكون للمنظمات الأممية دور في محاولة إقرار هدنة أو إنشاء ممر آمن يضمن للدول الراغبة في إجلاء رعاياها من إخراجهم بسلام وأمان من المدن الأوكرانية.
البيان الصادر عن وزارة الخارجية المصرية تعليقاً علي الأزمة الأوكرانية بعد التحرك الروسي الأخير هو بيان دبلوماسي ذكي ويستحق الثناء، فلا حل للأزمات العميقة بين روسيا وأمريكا وحلف الناتو إلا عبر لغة الحوار والحلول الدبلوماسية تفاديًا لتفاقم الأوضاع الإنسانية والاقتصادية التي ستضرب العالم بأكمله، ونتمنى أن يكون هناك هامش ولو بسيط للحوار بين موسكو وواشنطن حول الملفات الخلافية لحسمها بالحوار بعيدا عن الخيارات الخشنة التي لن تكون حل أبدا لأي أزمة في العالم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة