أكتب هذا الكلام قبل ساعات من مباراة مصر مع الكاميرون، وهى المباراة التى سبقتها إعدادات وتصريحات ساخنة ومحاولات للشحن وتحويل الأمر إلى حرب، هى ليست حربا، لكنها مباراة ومنافسة، للأسف فإن الاحتراف حول الروح الرياضية إلى صراع من أجل البقاء والمال، حيث كل شىء يصبح قابلا للقياس والوزن، وحتى الشغف الفطرى بين اللاعب والجمهور لم يتوقف كالسابق، وما تبقى منه خليط من الطبيعى والافتراضى.
أحرص على تسجيل هذا قبل مباراة حاسمة فى الدور قبل النهائى، وأيا كانت النتائج فإن المنتخب الوطنى هذه المرة قدم أداء جيدا على مدار عدة مباريات، واختلف أداء المنتخب عن البدايات.
نحب دائما أن نتوقف عند الشغف والروح الرياضية، فالكرة منافسة وصراع مشروع طالما كان هناك التزام بقواعد السباق، لقد اخترع الإنسان اللعب بديلا عن الحرب، وطالما كانت هناك روح رياضية كان هناك تحضر.
المنافسة ومحاولة الفوز والوصول إلى النهائى طموحات مشروعة، يصنعها الإخلاص والسعى، وهى علامات رأيناها فى المباريات الأخيرة وآخرها مع المغرب، حيث سادت الروح الرياضية وارتفع الشغف، وحصل فريقنا الوطنى على سر الجمهور الذى يمنحه عندما يشعر بالإخلاص، صحيح أن الكرة «أجوان»، لكن الإخلاص يصنع التناغم بين الجمهور والفريق، لو قدم ما عليه يستحق التشجيع بصرف النظر عن النتيجة، وهى علاقات سرية لا يمكن قياسها وإن كان من الممكن تحويلها إلى أرقام فى خزائن الاحتراف.
الجمهور بالمناسبة يمتلك من الحواس ما يمكنه من التفرقة بين الإهمال والاجتهاد والإخلاص، وبناء على ذلك يتخذ قراراته ومواقفه، صحيح أنها مواقف عاطفية، لكنها تحمل الكثير من الوعى والقدرة على الفرز والتقييم، وربما يسخر البعض من كون الجمهور كله نقاد، لكن هذه العلاقة هى التى تمنح كرة القدم سحرها، والجمهور يمكنه أن يحكم على المباريات ويختبر المشاعر والعواطف والحماس والشغف.
الشغف هو الكلمة السرية التى تشبه الحب والإخلاص وكل المعانى الاستراتيجية والرمزية التى قد يعجز الإنسان عن قياسها أو تحويلها إلى أرقام، لكن هذه المعانى هى التى تحكم العلاقة بين جمهور كرة القدم واللاعبين، وتصنع التفاعل والتفاهم.
حالة يصعب تقييمها بقواعد الحساب والسوق لكنها تتحول إلى أرقام فى حسابات اللاعبين والفرق، تتجاوز ما فعله الاحتراف من تحويل التشجيع إلى أرقام وحسابات بيزنس، لكن بالرغم من ذلك تبقى هناك خيوط سرية ومشاعر مختلطة تتجاوز البيزنس.
وهنا أعود إلى محمد صلاح الذى يعيش فى زمن تسيطر فيه صورة النجم على صورة البطل، حيث الشخص أو الفرد الذى يستطيع أن يصنع لنفسه قيمة لأيام أو ساعات قبل أن يفقد تأثير نجوميته، لكن البطل صورة من الماضى يستطيع أن يعيش ويعبر الأجيال، ويحمل القدرة على التأثير والبقاء.
فى تاريخ الكرة أبطال عاشوا لأجيال ونجوم اختفوا وتاهوا فى الاستقطاب أو الإغواء، نعرف منهم عالميين ومحليين، لكن محمد صلاح نجح فى بناء مكانة البطل، متجاوزا نجومية افتراضية، واللافت أنه صنع نجوميته ببساطته وفطرته، ومع هذا أصبح قادرا على التأثير فى سياق الأحداث وفى الجمهور، المفارقة أن صلاح يصنع بطولته بعيدا عن أى نوع من التمثيل أو الادعاء أو الاستقطاب، بل إنه نجح فى عبور محاولات تصنيفه أو تنميطه.
محمد صلاح يصنع لنفسه هذه الصورة وهذه المكانة، من خلال التواضع والسلوك القويم والتحضر والرقى، بشكل تجاوز فجوة التعليم إلى الاستيعاب والتعلم، وبذل جهدا جعله واجهة مثيرة للإعجاب.
محمد صلاح القادم من الريف المصرى يبنى صورة النجم ويتجاوزها إلى صورة البطل مع جمهور بلده وجماهير العالم، دون ادعاء أو تمثيل، «مو صلاح» يقود الفريق الوطنى، ويحرص على أن يكون المنتخب بعيدا عن ألوان الفانلات والنوادى، هنا يقدم نموذجا يتجاوز تشجيع كرة القدم إلى الوحدة فى التنوع، وهى الروح التى تغيب فى السياسة وأحيانا فى المجتمع.
كرة القدم فى الأساس شخصية، لكن علاقة اللاعب بالجمهور مع الاحتراف يمكن قياسها وحسابها وبيعها وشراؤها، وهنا تبدأ عملية تحويل اللعب إلى أرقام، والفرق إلى مصانع واللاعب إلى بقرة تحلب مالا للنادى وشركات الإعلانات والوكلاء حتى يصبح بلا قيمة، هنا الخطر الحقيقى.
وهنا نظن أن محمد صلاح حاول أن يتجاوز هذه الصيغة ويصنع لنفسه صورة البطل الكلاسيكى الشجاع الذى يقود فريق منتخبه الوطنى ببراعة وتوازن، ويحرص على التأكيد أن المنتخب أهم من الأندية والأفراد، وهنا يولد الشغف والبطل فى لكل لحظة، البطل الذى ينافس ويوجه وينكر ذاته.
p