أوشكت عمليةُ الإنقاذِ على التَّمام. بعد نحو أربعةِ أيَّامٍ فى باطن الأرض، يعود الطفل ريّان إلى أسرته. أزمةٌ إنسانيَّةٌ أثارت المواجعَ، وحظيت بمُتابعةٍ ربَّما لم يحظ بها حدثٌ أو قضيَّةٌ منذ سنوات، وعلى ما فى الأمرِ من محنةٍ للضحيَّةِ وأُسرتِه، وإيمانٍ بقضاءِ الله، واختبارٍ لدولةٍ وأجهزة، والتفافٍ حاشدٍ من ملايين المُتابعين، فإنَّ فيها من الأسئلةِ والإضاءات ما يستوجبُ التوقُّفَ؛ ليس فى الوجهِ البسيطِ الخاصِّ بحالةِ طفلٍ وعمليَّةِ إنقاذٍ وفرحةِ نجاةٍ، وإنَّما ما يخصُّ أمورَ الإعلامِ والرَّأى العامِ، والسياقِ الذى أصبحنا واقعين فى أَسرِه، أكثر من كوننا نحياه أو نُديرُ تفاصيله!
للوهلةِ الأُولى ربَّما يرى البعضُ قضيَّةَ "ريّان" حدثًا عاديًّا. طفلٌ فى أزمةٍ ومن ورائِه أسرةٌ تنتظرُ الفرج. الاهتمامُ الواسعُ الذى استرعته القصَّةُ يفوقُ المُعتاد. بالطبعِ لا يُمكنُ التهوينُ من فداحةِ الأمرِ، ولا من خطرِ فقدانِ طفلٍ برىءٍ لحياته، لكنَّ وقائعَ شبيهةً بالمنطقةِ والعالمِ لم تُصاحبها حالةُ الزَّخمِ الحاليةُ. قبل "ريَّان" تابعنا جميعًا حالاتٍ أشدَّ إيلامًا، منها الطفل السورى الغارق إيلان، ومواطنه "كريم" الذى فقد والدته وعينه، و"فتى الزرقاء" الأردنى الذى خُطِفَ ونكَّلَ به الخاطفون وفقأوا عينه ثمّ بتروا ذراعيه، والطفل الإسبانى "جولين" ذو السنتين الذى سقط فى بئرٍ عُمقُها 100 متر، و"سوجيت" طفلُ الهندِ العالقُ فى بئرٍ على عُمقِ 21 مترًا، وأطفالُ تايلاند ومُدرِّبُهم الذين ظلُّوا حبيسى كهفٍ مُظلمٍ لنحو 17 يومًا، وأخيرًا الطفل السورى محمد قطيفان الذى خُطِفَ من إحدى عصابات "درعا" ولم يُحرَّر بعد. بعضُ تلك الحوادث لم تكُن فى بؤرةِ الاهتمامِ، وبعضُها شغلت الناسَ حينًا، لكنَّ أيًّا منها لم تكُن على قدرِ الاهتمام والمُتابعة الحاليين لقصَّة طفل المغرب، بما أحدثته من حُمَّى فى إنتاج الأخبارِ والموادِ المُصوَّرةِ واستهلاكِها، ومئات الملايين من أرقام المُشاهدة عبر كُلِّ المنصَّات العربية!
ربَّما يجوزُ السؤالُ عن الأسبابِ الكامنةِ وراء ذُيوعِ محنةٍ إنسانيَّةٍ وتآلُفِ الناسِ معها وتبنِّيها كأنَّها قضيّةٌ شخصيَّة، مُقابل خُفوتِ غيرها أو خروجها من بُؤرة الضوء. الطبيعةُ البشريةُ تدفعُ فى اتِّجاه التوحُّد مع الآخرين فى هُمومِهم الضاغطة، ويزدادُ الاهتمامُ والإشفاقُ لو كان الآخرُ ضعيفًا، ويتضاعفُ كُلَّما كان الضعفُ ناتجًا عن طفولةٍ أو قُيودٍ مُباشرةٍ تُعجزُه عن إدارةِ أُمورِه. تلك البواعثُ تتوافرُ فى الحالاتِ السابقةِ جميعًا، وفى آلاف غيرها تداولتها منصَّاتُ التَّواصلِ لأطفالٍ أرهقتهم الحروبُ والمنافى ومُعسكراتُ اللاجئين وأجواءُ الصراع فى سوريا واليمن والعراق وليبيا، وغير ذلك خارجَ المنطقةِ العربيَّةِ وعلى امتدادِ العالم. هنا قد يطيبُ للبعضِ تحميلُ الحالةِ على عاتقِ الإعلام، والقولُ إنَّه تبنَّى حادثةً على حسابِ غيرها، أو وضعَ طفلاً تحت المِجْهَرِ بينما تجاهلَ آخر، لكن الحقيقة أن الصورةَ عكسُ ذلك تمامًا، وتلك مُلاحظةٌ أُخرى جديرةٌ بالأهميَّة.
لعلَّ انشغالَ الإعلامِ المغربىِّ بالواقعةِ من البديهيَّات؛ لكنَّ رُقعةَ التغطية لحالةِ "ريَّان" تمدَّدت جُغرافيًّا لتتجاوزَ حُدود المغربِ إلى أنحاء المنطقةِ العربيّة، وإلى فضاءاتٍ أبعد إقليميًّا وعالميًّا. البدايةُ كانت من جُمهور "السوشيال ميديا" لا من الإعلامِ العادىّ، ثمّ تدافعت المنصَّاتُ التقليدية إلى القصَّةِ محمولةً على اهتمامِ الناس. كانت المُعالجةُ تلبيةً لطلبٍ قائمٍ ومُتنامٍ، وليست مُنشِئًا أو مُروِّجًا للقصَّةِ بغرضِ تصديرها أو إقحامِها على لائحةِ الاهتمامات. تلك الحالةُ تُجبرُنا على إعادةِ النَّظرِ بشأنِ علاقةِ الإعلامِ التقليدىِّ بالوسائطِ الاجتماعية، فلم تعُد اتِّصالاً فى اتِّجاهٍ واحد، أو سُلْطَةً قادرةً على تحريرِ الأولويَّاتِ وقيادةِ الرأى العام، وإنَّما يقعُ الإعلامُ أغلبَ الوقتِ فى موقعِ رَدِّ الفِعْل، ويجدُ نفسَه مُضطرًّا إلى شراءِ الرَّائجِ وإعادةِ بَيعِه، حتى لا يفقدَ جمهورَه ومُتابعيه، ولا يُخِلَّ بوظيفته الأصليَّةِ، من حيث كونِه أداةَ إخبارٍ بالأساس.
الوضعيَّةُ الرَّاهنةُ أقربُ إلى دائرةٍ مُغلقة، لكنَّ مركزَها لم يعُد أهمَّ نقاطِها. يُمكِنُ أن تنبُعَ الأهميَّةُ من نقطةٍ هامشيَّةٍ على محورها. يُمسِكُ شخصٌ عادىٌّ هاتفَه ليكتُبَ أو يضعَ صُورًا أو مقطعَ فيديو على حسابه بإحدى المنصَّات، تتضافرُ النِقاطُ المجاورةُ لتخلقَ مركزًا جديدًا يُجبِرُ ماكينةَ النَّشْرِ النظاميَّةَ على التحرُّك إليه، لتُعيدَ التَّموضعَ داخلَ المُعادلةِ الجديدة، وبناءَ الرَّسائلِ وتوجيهها إلى النِّقاطِ الطَّرفيَّةِ مُجدَّدًا. بات الإعلامُ فعلاً - إلَّا فيما نَدَر - ردَّ فِعلٍ يُساير رغبةَ الرأى العام الناشئةَ من رَحمِ الإتاحةِ وتدويرِ سُلْطَةِ النَّشرِ وتحريرِها من قبضةِ المراكز التقليديَّة. يخلقُ مُستخدمٌ ما رسالةً - عفوًا أو قصدًا - فيتبنَّاها آخرون بالانفعالِ أو الانتماءِ أو التأثيرِ العاطفىِّ أو الاستمالةِ وتأثيرِ كُرةِ الثلجِ، فتتصدَّر الاهتمامَ مع تداولها وتكثيفِ النَّشرِ فيها، لتأخُذَ المنصَّاتُ التقليديَّةُ موقعًا بين المُتداولين. صحيحٌ أنَّ قُدراتها ما تزالُ أكبرَ إلى درجةِ أنَّها تظهرُ وتُهيمن على الرِّسالةِ سريعًا، وأنَّ منشأَ الرِّسالةِ يذوبُ فى زحامِ تكرارِها، ويعودُ واحدًا بين المجموع، لكنَّ هذا لا يُغيِّرُ صيغة َالإنتاجِ الأصليَّةَ التى تضعُ الإعلامَ فردًا ضمن أفراد، يتميَّزُ عنهم بأنَّ له جسدًا ضخمًا يُمكِّنه من الاستحواذِ على فضاءِ الصُّورةِ حالما يدخُلُ حدودَها؛ لكنَّه استحواذٌ مُراوغٌ لا يُعبِّرُ عن حقيقةِ أنَّ الرَّأىَ العام بات يُديرُ نفسَه، أو يُدارُ من داخلِه، بآليَّةٍ يتحرَّرُ فيها من سُلْطَةِ الإرسالِ التقليديَّةِ، ومن وضعيَّةِ الاستقبالِ الخاضعةِ تمامًا لِمَا يُقرِّرُه مُنشئو الرَّسائل.
تتبدَّى سُلْطَةُ الهامشِ الفردىِّ لا فى ابتكارِ وترويجِ رِسالةٍ بعينِها فقط، إنَّما فى وَضعِ الأُطُرِ والحُدودِ المسموحِ بها فى مُعالجتِها. الحالةُ العامّةُ فى قصَّة "ريَّان" يُسيطرُ عليها التَّعاطفُ الناشئُ عن انفعالٍ مُباشرٍ وغَلَبةٍ للمشاعرِ على العقل، لذا لا تتضمَّنُ الرَّسائلُ أيَّةَ إشارةٍ إلى مبعثِ الأزمة، ولا كيفيةِ سُقوطِ الطِّفل، ولا إهمالِ الأُسرة، ولا توافرِ اشْتراطاتِ السَّلامةِ والأَمْنِ فى الأراضى والمُنشآت المائيَّة، وغير ذلك من محاور وعناوين تستدعيها المحنةُ حالَ ابتغينا التعمُّقَ فى المسألةِ خارجَ صِيغتها الآنيَّة. بالتبعيَّةِ لم تقتربْ المنصَّاتُ التقليديَّةُ من التساؤلاتِ المفتوحة، ربَّما لأنَّها تعى طبيعةَ الجُمهورِ المُستهلكِ للقصَّةِ، وما تنطوى عليه المُعالجةُ العاقلةُ من ألغامٍ كامنةٍ تحت تلالِ المشاعر الجيَّاشة. هكذا لا يبدو أن الطفلَ ريَّان وحدَه يقبعُ فى البئرِ الضيِّقة، وأنَّنا نعيشُ حالةً شبيهة - على ما نتوهَّمه من اتِّساعٍ وبراح مُحيط - إذ لا تعدو تلك الفُسحةُ الخادعةُ حُدودَ بئرٍ سحيقة، تقلُّ مُدخلاتُها وتتضاءلُ فُرَصُ مُراوغتِها والتَّحايلِ على قيودِها؛ ورغم أنَّها مفتوحةٌ نظريًّا على العالم بكاملِه، إلَّا أنَّه الا يُمكنُنا القفزُ خارجَها مهما تخيَّلنا فى أنفسنا من قُدرةٍ على ذلك.
حالةُ التَّقوقُعِ تنسحبُ على الفضاءِ العام بكاملِه، فإذا كانت القضايا الإنسانيَّةُ محلَّ اتِّفاقٍ بين الأفرادِ والإعلام التقليدىِّ، بعيدًا من سِيادةِ العاطفيَّة كثيرًا أو تحييد الأسئلةِ المنطقيَّة دائمًا، فإنَّ أُمورًا أخرى يُمارسُ فيها المُستخدمون غطرسةً ظاهرة، فيرفضون الرَّسائلَ ويعملون ضدَّها حتى لو كانت تحت لافتةِ الإخبارِ وفى حُدودِ أدوارِه المهنيَّة والاجتماعيَّة. بل إنَّ البئرَ تتآكلُ إلى مساحةِ قَدَمٍ واحدة، فيتداخل المُستخدمون بين القضايا والعناوين والبلدان، صحيحٌ أنَّ جانبًا يُدار من خلال لجانٍ إلكترونيَّةٍ لا سيَّما فى أمور السياسةِ؛ لكنَّ شطرًا من التَّفاعُلِ فى عُمومِ الموضوعاتِ يظلُّ شخصيًّا، فتجد فردًا من بلدٍ يشتبكُ بانحيازٍ واضحٍ مع أخبارٍ وموضوعاتٍ تخصُّ بلدًا آخر. قصَّةُ "ريَّان" تُلخِّص تلك الحالةَ، وكيف وصلنا إلى مرحلةٍ من اتِّحاد المراكزِ حتى أصبحنا جميعًا نقاطًا على محورِ دائرةٍ واحدة، بغضِّ النَّظرِ عن البلدِ أو الثَّقافةِ أو الانتماءِ أو الاهتمامات. إفراطُ الاتِّصالِ ونُموُّ قُدرات الوصول وإتاحتها للجميع خلقت عَوْلَمَةً كاسحةً تذوبُ فيها التمايُزات، وتكتسبُ القضايا أحوزةً أكبرَ ممَّا هى عليه بالفعل، وتتماسّ الموضوعات مع عابرين من خارج سياقاتها، لا لشىءٍ إلَّا الإتاحة ووفرة الوقت ونَهَم الاستهلاك وتأثير كُرةِ الثَّلجِ وما تُحقِّقُه فكرةُ القطيعِ، أو المسارِ المُهيمن، من استمالةٍ تجذبُ حشودَها بنعومةٍ، أو تقمعُهم بمخاوف المُغايرةِ المذمومةِ أو التبلُّدِ أو انعدامِ الوعىِ أو الشُّذوذِ عن المجموع العام والتيَّارِ السائد!
حمدًا لله أنَّ الطِّفلَ المغربىَّ لم يُصَب بأذىً، وأنَّه يقتربُ من استعادةِ حُضنِ أُمِّه ثانيةً، وما جرى من السُّلطات المغربيَّةِ ملحمةٌ تستوجبُ الإشادةَ والإكبار، وحالةُ التلاحُمِ والالتفافِ من كُلِّ الفئاتِ تُشيرُ إلى مُشتركاتٍ إنسانيَّةٍ نحتاجُ إلى تزكيتها وتقوية دعائمها، لكن علينا أن نفهمَ أيضًا لماذا نقبعُ فى البئرِ؟ ولماذا خرج "ريّان" ونعجزُ عن الخروج؟ وما حدودُ بئرِنا التى فُرِضَت علينا؟ وهل يُمكنُ أن يقومَ الأفرادُ ومعهم المنصَّاتُ الاجتماعيَّةُ مقامَ الإعلام التقليدىِّ أو يكونوا بديلاً عنه؟ وهل من الصَّائب أن يظلَّ الإعلامُ رديفًا لكُرةِ "السوشيال ميديا" الثلجيَّة أم عليه أن يستعيدَ وضعيَّته كمُرشدٍ ومُنظِّمٍ وصوتٍ فاعلٍ لا صدى أو كورال؟ أصبحنا جميعًا نعيشُ داخلَ بئرٍ ضيِّقة، أكلَ الاتِّصالُ المُتسارعُ فُسحةَ الجُغرافيا الثقيلة، وأكلَ كثيرًا من تنوُّعِنا فى المشاربِ والرُّؤى، حتى أحكمَ علينا الخناقَ ونَهَب الفواصلَ وضيَّقَ المساحات. كان يُفترَضُ أن يُثمرَ مزيدًا من التَّفاعُلِ الخلَّاق، والتلاقُحِ المُعزِّز للفرديَّةِ ومزاياها بدلاً عن الخصمِ منها، لكنَّه إلى الآن يبدو على العكسِ تمامًا، إذ يُحوِّلُنا إلى نُسخٍ مُتشابهةٍ وإن تخيَّلنا خلافَ ذلك، وكُلَّما تشابهنا أكثر قلَّت قُدرتُنا على دَفعِ الإنسانيَّةِ قُدمًا بالتنوُّعِ والاختلافِ وتشابُكِ الأفكارِ وتصارُعِها. قد نصلُ فى مرحلةٍ مُقبلةٍ إلى قناعةٍ بأنَّ البئرَ أوسعُ ممَّا نحتاج، وأنَّ علينا ضَغطُها قدرَ طاقتنا، ووقتها رُبَّما ننسحقُ تمامًا داخلَ لُعبةٍ تخيَّلنا أنَّنا نُديرها، بينما كُنَّا فى الواقعِ لُعبةً داخلَ اللعبة، وأداةً تُدارُ طوالَ الوقتِ عكسَ رغباتها الحقيقيةِ!