صدمة كبرى، وقرارات استثنائية.. كان هذا هو المشهد في صيف 2019، بعدما فوجئ الملايين من عشاق الكرة المصرية بخروج المنتخب الوطني أمام نظيره الجنوب أفريقي من دور الـ16 لبطولة كأس الأمم الأفريقية، رغم تحقيق الدولة المصرية العلامة الكاملة على مستوى تنظيم البطولة التي تم إسنادها لها قبل الانطلاق بـ6 أشهر.
داخل المستطيل الأخضر كان قبح البدايات يشي بظلام النهايات.. كانت ركلة البداية باهتة، وغاب النظام عن غرف الملابس، فلم يكن غريبًا أن يتعنت لاعبون في الدفاع عن زميل متورط بتجاوزات أخلاقية، ولم يكن مستغربًا أن يستفز لاعب لا تخلو مسيرته من الأخطاء الكارثية، الجمهور بعد إحرازه هدفًا ليشير لهم: "مش سامعكم"، غابت الروح، وحلت الفوضى، فكان الجزاء خروجًا من "الباب الصغير"، وإقالة لاتحاد الكرة والمكسيكي خافيير أجيري وجهازه المعاون.
وما بين الخروج المهين في استاد القاهرة، ومشهد "باول بيا ستاديم" في العاصمة الكاميرونية ياوندي رحلة قاربت على الثلاث سنوات، امتلكت خلالها الكرة المصرية القدرة على تصحيح المسار، واستطاعت بدعم المؤسسات المعنية الإقدام على خطوات استباقية كان من بينها التوجه بالشكر للكابتن حسام البدري رغم ما قدمه من نتائج خلال رحلته القصيرة في قيادة الجهاز الفني للمنتخب، لما كان ظاهرًا من أداء متواضع لا يؤمن الصورة التي تليق باسم وتاريخ الكرة المصرية.
في رحلة تعديل المسار، وقع الاختيار على العجوز المخضرم، البرتغالي كارلوس كيروش لما يمتلك من سيرة ذاتية مكللة بالإنجازات، ما بين إدارة منتخبات البرتغال وإيران وفريق ريال مدريد والمشاركة في إدارة مانشستر يونايتد بجوار السير أليكس فيرجسون، وتمت الاستعانة بنجوم الجيل الذهبي لمنتخب مصر الذين يعرفون معني البطولة وائل جمعة، ومحمد شوقي، ضمن الجهاز الفني، وبحضور مميز لكشاف النجوم، الكابتن ضياء السيد الذي يمتلك ما يلزم من خبرات كانت سببًا في اتساع مساحة الاختيارات، ليضم المنتخب أسماءً كانت قبل بضعة أشهر خارج دائرة الضوء، لتصبح بعد بضع مباريات نجوم شباك.
أمام ليبيا وضمن التصفيات المؤهلة لكأس العالم، كانت ركلة البداية في رحلة كيروش مع المنتخب الوطني ليقدم اللاعبون أداءً مقبولاً لتنتهي المواجهة على ملعب استاد القاهرة بهدف مقابل لا شيء، سجله اللاعب الشاب عمر مرموش، الذي لم يكن يعرف طريقه للمنتخب قبل بداية عهد البرتغالي مع الجبلاية، لتحمل مباراة الذهاب أمام ليبيا مفاجآت سارة لجماهير الكرة المصرية، بفوز خارج الأرض بنتيجة 3/1، لكنها لم تكن كافية لوقف رسائل الانتقاد المتوارية، والتعليقات الرافضة لبعض اختيارات الجهاز الفني والتغييرات التي أقدم عليها خلال اللقاء.
الفوز خارج الأرض، تلك الميزة التي غابت طويلاً عن الكرة المصرية علي صعيد المنتخب والأندية، لم تكفل للبرتغالي كيروش الإشادة.. فعلي العكس، خرج بعض من عشاق "الشو الكروي" في برامج رياضية عبر فضائيات بعضها مصري وبعضها عربي ليضعوا "روشتة توصيات" ويقدمون على انتقادات متوارية لاختيارات الجهاز الفني، والتغييرات التي تخللت لقاء الفوز، في محاولة لإثارة منصات السوشيال ميديا غير الرسمية والتي تتحدث زورًا بلسان جماهير الأندية، ليدافع كل عن نجم فريقه في طقس كان أقرب لعبادة الأصنام، أكثر من كونه إيمانًا بروح الفريق.
بثبات لا ينقطع، توالت انتصارات المنتخب الوطني تحت قيادة كيروش، وبثقة لا يشوبها ارتباك، تقبل البرتغالي الانتقادات التي صاحبت القائمة المبدئية والقائمة النهائية لبطولة كأس العرب في قطر، ليقدم المنتخب في نسخته "الشابة" وبأقدام 10 لاعبين ارتدوا قميص المنتخب للمرة الأولي في مسيرتهم أداءً مميزًا، لكن التوفيق لم يكن حليفًا له في الأمتار الأخيرة، لتشتد حملة الانتقادات غير المحايدة لمنظومة الكرة المصرية، وسط مطالب لا ترقي للمنطق بالتدخل في عمل الجهاز الفني.
مع احتدام الأزمات المفتعلة، اختار كيروش مواجهة المنتقدين بعبارات لاذعة، ومع انطلاق بطولة كأس الأمم الأفريقية، حقق المنتخب الوطني إنجازًا تلو الآخر، وأحرج اللاعبون في الميدان من اختاروا دور "غربان الجنائز" عبر منابر إعلامية، وحرصوا دون كلل على التشكيك والزعم بانحياز "الحظ والصدف".. برهن المدرب البرتغالي رجاحة اختياراته داخل الملعب حين هزم الفراعنة كوت ديفوار المدجج بنجوم تبلغ قيمتهم التسويقية 298.70 مليون يورو، وحين استطاع أبطال المنتخب الوطني التغلب على الأرض والجمهور وتعنت التحكيم والغيابات بداعي الإصابة واجتياز عقبة الكاميرون والصعود إلى المباراة النهائية من البطولة أمام السنغال.
خسر كيروش مباراة نهائية بعد استنفاد أشواطها الأربعة، خاضها بفريق لعب مباراة زائدة بحسابات الوقت، أمام منتخب مدجج بالنجوم، ويتمتع بـ24 ساعة راحة تزيد على أبطال الفراعنة، لكنه كسب في نهاية المطاف احترام الجميع عن جدارة، بعدما قدم داخل وخارج الخطوط أداءً راقيًا على صعيد الكرة وعلى صعيد الإدارة والحروب النفسية.. خسر منتخب مصر لقبًا غاليًا، لكنه اكتسب هوية غابت طويلاً منذ أن تساقطت حبات عقد الجيل الذهبي من أبناء المعلم حسن شحاتة، وعاد بميلاد قوي لجيل شاب عبر عن نفسه جيدًا داخل المستطيل الأخضر وخارجه.. جيل لا يعرف الألوان حين يرتدي قميص المنتخب، ولا مكان فيه لـ"أصنام" كرة القدم المصرية، ولا تسمع معه عبارة "لاعب لا بديل عنه في مركزه".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة