هذه التحولات التى يشهدها العالم، مع الحرب الروسية الأوروبية على أرض أوكرانيا، لا تزال تفرض تفاعلاتها، وتنتج آثارا اقتصادية وسياسية، ضمن ما يطلق عليه المحللون بل وأطراف الحرب إعادة تشكيل النظام العالمى، حيث ترى روسيا أن هذا النظام تم بناؤه على عجل ومن طرف الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفيتى والكتلةالشرقية، ويقول سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسى، إن المعركة تدور حول تحديد شكل النظام العالمى مستقبلا، ويرى أن «الدول الغربية فرضت «النظام العالمى»، وصاغته فى دائرة ضيقة».
ويقصد ما جرى قبل ثلاثة عقود، حيث سقط سور برلين فى نوفمبر 1989، وبعد عامين تفككت الإمبراطورية السوفيتية بانفصال جمهوريات البلطيق، وتوحدت ألمانيا بعد عام واحد، واتجهت أوروبا إلى الوحدة الاقتصادية والسياسية، واستعادت دولا من شرق ووسط أوروبا، وانتهى حلف وارسو، وأعلن منظرو الولايات المتحدة بداية عصر جديد للرأسمالية باعتبارها «نهاية التاريخ».
لكن العقود الثلاثة، شهدت تغييرا فى موازين القوة، وجرت تغييرات على الأرض، وفى الاقتصاد، بل وحتى دعاوى العولمة التى بشرت بوحدة اقتصادية وسياسية وحرية لحركة رأس المال والسلع، وانتهاء القومية، انتهت إلى منافسة اقتصادية وحواجز جديدة، وفى عام 2019 احتفلت أوروبا بالذكرى الثلاثين لسقوط سور برلين وتوحيد ألمانيا، الاحتفال اختلف عن احتفال 2009، ومرور عشر سنوات حيث كانت علامات الانتصار أوضح، لكن فى الذكرى الثلاثين كانت بريطانيا تستعد لمغادرة الاتحاد الأوروبى بعد استفتاء «بريكست»،
وروسيا ليست هى نفسها بعد انتهاء الحرب الباردة أو قبل 22 عاما، أصبحت فى وضع أفضل مما كان عام 2000، عندما تولى فلاديمير بوتين الرئاسة يومها قال: «نعيش فى عالم تنافسى ولسنا بين قادته»، كان يدرك حجم الضعف الذى تعيشه روسيا، ما بعد التفكك والضعف، وهو ما يجعل روسيا غير قادرة على فرض أى تدخل فى النظام العالمى الذى تمت صياغته فى غيبة التأثير الروسى أو الصينى، بوتين نجح فى لملمة قوة الاتحاد الروسى وحقق الاقتصاد نسبة نمو مرتفعة لمدة ثمانى سنوات متتالية، وزاد الناتج المحلى، وأعيد انتخابه، حتى 2008، وتولى رئاسة الوزراء فى رئاسة ديمترى ميدفيديف، قبل أن يترشح عام 2012، وتوالى الصعود الروسى، مع القدرة على ردع محاولات الخروج أو التمرد فى جورجيا والشيشان بل وأوكرانيا، والتى بلغت أقصاها مع ضم القرم، ومواجهة عقوبات وتهديدات غربية.
وبالتالى أثناء الاحتفال بثلاثين عاما على سقوط سور برلين لم تكن أوروبا أو الغرب كما كانت بعد عقد من توحد ألمانيا، يومها كتب برونو تيرترى، مدير مساعد لمؤسسة البحوث الاستراتيجية بباريس «أثارت العولمة أملا بزوال الحدود، لكنها فى الواقع أدت إلى «صدمة ارتدادية» وتغذية «النزعات السيادية والقومية» التى تحبذ الحواجز، حيث تقوم حواجز رصدها تقرير معهد «ترانسناشنال» أن «الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى، وفى فضاء شنجن شيدت منذ تسعينيات القرن الماضى نحو ألف كيلومتر من الجدران تعادل ست مرات طول جدار برلين، بهدف منع دخول نازحين»، كانت قضية اللاجئين قد تفاعلت خلال العقد الماضى، مع تدفق اللاجئين من أفريقيا والشرق الأوسط بسبب تحركات وصراعات وحروب أهلية نشأت فى ظل العولمة.
وبالإضافة إلى الجدران الفعلية هناك حواجز سياسية واقتصادية، ودعاوى طرحها فرنسيون باستعادة روسيا إلى أوروبا، فيما تبدى أوروبا قلقا من توسع النفوذ الروسى فى أفريقيا والشرق الأوسط، بينما تنسحب الولايات المتحدة، وتواجه أوروبا، وعلى مدار أكثر من ثلاثة عقود يجرى تشكيل نظام عالمى يموج بالتغيرات. وحتى حرب الدعاية اختلفت وأصبحت تدور وسط ثورة معلومات واتصالات، مكنت كل طرف من امتلاك أدوات دعاية، تلعب نفس دور السلاح النووى، فى الردع والمواجهة، ولا يمكن تجاهل ما حققته الصين من قوة اقتصادية تنافس بشكل كبير وتحتل المرتبة الثانية بين أقوى الاقتصادات، فضلا عن قوة نفوذها.
وهذه التحولات تجعل المحللين، يتوقعون شكلا جديدا لنظام عالمى، لا يزال يحمل بقايا تراكمات الحرب الباردة بقواعد جديدة.