"شكراً لساعي البريد"، عبارة دائماً ما كتبتها أجيال وأجيال على تلك الأظرف الأنيقة بمستطيلاتها الحمراء والزرقاء، وقد كانت بمثابة شهادة تقدير واعتزاز لرجل البريد المصري، الذي يرتدي زيا خاصا، ويحمل حقيبة مميزة، ويحفظ شوارع المدن والقرى عن ظهر قلب، ويمارس نشاطه اليومي في توصيل "الجوابات" لأصحابها في أسرع وقت ممكن، تزينها الطوابع التي تحمل أهم معالم مصر السياحية والثقافية والفنية، والرموز والشخصيات التاريخية الوطنية، وكانت الأسرة المصرية دائما ما ترى رجل البريد دليل خير وبشارة، ورسول من الأحبة والأقارب، في تلك الأيام الخوالي، التي لم تكن تعرف الهواتف الثابتة أو المحمولة، أو تطبيقات الفيديو كول والتواصل الاجتماعي.
ظل الارتباط بأهمية البريد سمة تميز العقود الماضية، وصار هذا التعلق حاضرا بقوة حتى الأجيال المولودة في الثمانينات من القرن الماضى، فلم يكن البريد الإلكتروني إلا نوع من الخيال، وقد كان الطالب الناجح في الثانوية العامة لا يمكنه أن يتوجه إلى الجامعة أو دخول الكلية بدون "بطاقة الترشيح"، تلك الورقة الكرتونية البيضاء، التي كانت تنتظرها الأسرة المصرية بفارغ الصبر، لتعرف الكلية التي التحق بها الأبناء والبنات، وكان يحملها ساعي البريد بشغف، ويستقبله الأهالي بالزغاريد والتهليل، خاصة في القرى المصرية، وقد كنت شخصياً ممن عاصروا هذه التجربة المملوءة بالفرحة والإثارة.
لا يمكن لعاقل إنكار الدور الكبير الذي يقدمه البريد في خدمة المواطن المصري، من خلال شبكة فروع هي الأكبر والأوسع انتشارا على مستوى الجمهورية بأسعار تنافسية، تقل عن مثيلاتها في القطاع الخاص بنسب تصل إلى 50%، ومواصفات ومعايير أمان معروفة ومضمونة اعتادها المواطن منذ عشرات السنين، خاصة أن عمر هذه المؤسسة العريقة يزيد على 160 عاماً، ومؤخراً توسعت خدماتها، حتى باتت تشمل أكثر من 23 مليون عميل.
البريد المصري هو الجهة الأقدر والأجدر على تحقيق حلم الشمول المالي، الذي تنشده الدولة منذ سنوات طويلة، خاصة أن شبكة فروعه تضم 4147 مكتب بريد، بما يعنى أن كل قرية مصرية تقريباً يوجد بها مكتب بريد، يتيح لأصحابها العديد من الخدمات المالية، التي بالطبع تسهم بدور غير مسبوق في تقليل الضغط على البنوك، بما يجعل المستقبل واعد لهذا القطاع، الذي يتمتع بثقة كاملة من المصريين، الذين يعطونه أفضلية خاصة ويتجهون إليه لإيداع أموالهم ومدخراتهم، التي وصلت إلى 300 مليار جنيه، وفق آخر تصريحات من مسئولى البريد.
آلاف التحويلات التي ينفذها المصريون بصورة يومية تتم من خلال هيئة البريد، فقط عن طريق بطاقة الرقم القومي تستطيع أن تحول ما تشاء من أموال لأي قرية أو نجع في مصر بأقصى سرعة ممكنة، وأمان كامل، بحيث يمكنك الحصول على الأموال بمجرد إجراء التحويل، الذي لن يستغرق أكثر من دقائق معدودة، كما أن البريد يقدم خدمات كبيرة للقرى النائية الحدودية، التي تبعد عن فروع البنوك عشرات الكيلو مترات، ولا بدائل لها سوي خدمة البريد، التي يعمل فيها أكثر من 55 ألف موظف على مستوى الجمهورية.
10 ملايين مواطن من أصحاب المعاشات يعتمدون بصورة أساسية على مكاتب البريد المنتشرة في محافظات الجمهورية، حيث تتم عمليات الصرف بسهولة ويسر، وفق نظام حديث مميكن، ومقرات وفروع مجهزة لاستقبال كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، بالإضافة إلى الأكشاك البريدية والمكاتب المتنقلة، التي تشمل أكثر من 83 سيارة مجهزة، مزودة بموظفين وماكينات صراف آلي.
الوظيفة التقليدية للبريد في توصيل المراسلات والطرود والخطابات المسجلة بعلم الوصول داخل مصر وخارجها مازالت ميزة نسبية يحتفظ بها البريد المصري، ويطورها دون منافس، خاصة أن تكاليف هذه الخدمات تقل عن مثيلاتها في الشركات الخاصة، بصورة يعرفها المصريون جيداً، لذلك يعتبرونه خيارهم الأول، و يعتمدون عليه في توصيل رسائلهم وخطاباتهم، وقد اعتادوا الطوابع المميزة، بأشكالها وألوانها التي تشكل لوحات فنية بذاتها، لذلك يجد المواطن المصري في البريد حاجته ويعتبره الأقرب إليه.
الدولة تضع خطة إنشاء مكاتب البريد ضمن أولوياتها في قرى حياة كريمة، وتخطط لأن تصبح كل قرية بها مكتب بريد مميكن ومتطور، لخدمة المواطنين، انطلاقا من قدرة البريد على الوصول إلى الملايين عبر شبكته المتسعة، التي تخدم آلاف القرى، لدرجة جعلت الحكومة تعتمد عليها في تقديم الخدمات الجماهيرية، وخير دليل على ذلك منح البطالة التي كانت تقدم في ظل جائحة كورونا للعمالة غير المنتظمة، لضمان وصولها إلى المستحقين، في توقيتات مناسبة، وقد أثبت البريد جدارة كبيرة في تنفيذ هذه المهمة، وساهم في تخفيف العبء عن الطبقات الفقيرة، لذلك نستخلص من كل ما سبق أن البريد المصري لا يمكن حصر دوره في منشورات هجومية يكتبها البعض على الفضاء الأزرق، لكنه جزء من ثقافة وحياة المصريين، وقد نجح باحترافية وتميز في تقديم خدماته وتطويرها على مدى قرنين من الزمان.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة