من أصدق الصادقين فى زمننا المعاصر كان الإمام محمد عبده، الذي كان مشغولا بالحال التى وصلنا إليها، فسعى إلى التجديد ولقى فى سبيل ذلك الأمرين، لكنه صبر واحتسب حتى أدى رسالته.
جاء محمد عبده (1849- 1905) فى مجتمع يحاول النهوض، لكنه لا يعرف نقطة البداية، فالدراسة الدينية المتاحة لا تقدم جديدًا، إنها تعيد وتزيد فى نصوص معروفة بطريقة معروفة، آخر ما يحلم به الدارسون أن يشرحوا ما سبق وأن يضع حواشى على كتاب الأسلاف، أي لا جديد تحت الشمس.
ومما يذكر فى سيرة الإمام محمد عبده الذي بدأ تعليمه فى المسجد الأحمدى فى طنطا أنه كان طفلا كثير الأسئلة وهو ما عده شيوخه تطاولا وشغبا، ولم يروا فيه عطشا لمعرفة أو بحثا عن تجديد أو رغبة فى تفكير، ولما ضاقت به السبل ترك التعليم وعاد إلى قريته لكن والده الحالم لم يعجبه الأمر، كما أنه التقى بالشيخ درويش خضر الذى أعاد له الثقة فى مستقبله فعاد مرة أخرى للتعليم، ودخل الجامع الأزهر فى سنة 1865.
وفى سنة 1871 جاء جمال الدين الأفغانى إلى القاهرة حينها وجد محمد عبده ضالته التى يبحث عنها فمثل كل الحكايات الأسطورية كان لقاء محمد عبده وجمال الدين الأفغانى، صاحبان فى رحلة واحدة يسعيان إلى الحق يعرفان بأن العالم الإسلامى تتقاذفه أفكار جامدة جفت فى الشمس حتى احترقت لذا كان عليهما إحياء الهمة الفاترة..
فى هذه الأثناء كان الخديو إسماعيل قد وضع مصر تحت مقصلة الدين الأوروبى، مما اضطر الخديو إلى فرض ضرائب باهظة على عامة الشعب، والخديو توفيق لم تكن ظروفه بأحسن حالا من أبيه، وهنا ظهر دور قهوة متاتيا فى صناعة جيل من المثقفين الذين أزعجوا السرايا، فتم طرد جمال الدين الأفغانى من مصر وتحديد إقامة محمد عبده وعزله فى قريته.
فى سنة 1882 هزم عرابى وسقطت مصر بشكل كامل فى قبضة الاحتلال، وتم القبض على محمد عبده وسجنه وتعذيبه. فخرج من السجن محطم النفس هزيل البدن، يائسا حزينا. شأنه شأن باقى أفراد الشعب المصرى فى ذلك الوقت، وسرعان ما نفى محمد عبده من البلاد لمدة ثلاث سنوات. سافر خلالها إلى بيروت ثم باريس لكى يلحق بجمال الدين الأفغانة هناك.
من بيروت ومن فرنسا وبعد عودته لمصر لم يتوقف الإمام الإصلاحى محمد عبده عن الصياح فى هذه الأمة الخامدة بحثا عن نهضة تتعلق بروحها وبعقلها، وخاض فى سبيل ذلك الكثير من المشاكل وما زال فكره وإصلاحه حتى الآن يهتدى به الراغبون فى بناء هذا الوطن.
مرت السنوات على رحيل محمد عبده، لكنه لا يزال اسمه دالا على الرغبة العارمة فى الإصلاح، وفى القدرة على فعل ذلك.