اتساع كبير تشهده دوائر مصر الدبلوماسية، في السنوات الأخيرة، ربما تجلى في أبهى صوره، في العديد من المشاهد، التي ارتكزت فيها الدولة المصرية على توسيع علاقاتها مع محيطها الدولي، على أساس مبدأ "الشراكة"، وهو ما تجلى فيما سبق وأن أسميته "اكتشاف النقاط الميتة"، عبر توطيد العلاقة مع أطراف لم تكن في أجندة الأوليات في سنوات ماضية، على غرار التعاون الثلاثي مع اليونان وقبرص في منطقة المتوسط، عبر ما يمكننا تسميته بـ"دبلوماسية الغاز"، أو الانطلاق في كل أنحاء القارة الإفريقية، بعيدا عن رؤية الاقتصار على مناطق بعينها نظرا للارتباط معها بمصالح مباشرة، دون غيرها، عبر "دبلوماسية التنمية"، ناهيك عن تنويع التحالفات في الدائرة العربية، سواء من حيث الأطراف أو الموضوع، على غرار التحالف مع العراق والأردن، والذي تطغى عليه الطبيعة الأمنية، في إطار الحرب على الإرهاب، أو التحالف مع الأردن والإمارات، والذي يقوم على الجانب الصناعي والتكنولوجي، وهى الجوانب التي من شأنها توحيد الرؤى في كافة المجالات، عبر تعظيم المصالح المشتركة.
ولعل النجاح المنقطع النظير، الذى حققته الدولة المصرية، في تحويل القضايا ذات الاهتمام المشترك، مع الأطراف الدولية الأخرى، إلى "دبلوماسية" قائمة بذاتها، يمثل أحد أهم محاور الإنجاز الذي تحقق في إطار العلاقات الدولية، خلال السنوات الأخيرة، حيث تمكنت من خلاله في خلق حالة من "الارتباط" مع الشركاء، يمكن من خلالها إضفاء قدر كبير من الزخم للدور الذي يمكن أن تقوم به مصر على المستوى الدولي، ليتجاوز الجغرافيا الإقليمية، والمتمثلة في الدوائر التقليدية، نحو مساحات أرحب، منها على سبيل المثال العلاقة القوية مع تحالف "فيشجراد"، والذي شهد مشاركة فعالة في قمته الأخيرة من قبل الرئيس عبد الفتاح السيسي، كما اتسمت العلاقات مع أعضائه بحالة من المتانة، تجلت، على سبيل المثال، في الزيارة التي أجراها الرئيس البولندى أندريه دودا إلى القاهرة، والتي تمثل انعكاسا ليس فقط لقوة العلاقة، وإنما أيضا حالة من "التمدد الجغرافي"، والذي يبدو أحد أهم نتائج ما يمكننا تسميته بـ"دبلوماسية تقسيم الملفات"، عبر مخاطبة كل طرف عبر القضايا التي تمثل أولوية بالنسبة له.
وبين دبلوماسية "الغاز"، التي خلقت تحالفا ثلاثيا مع اليونان وقبرص، ليتسع بعد ذلك في صورة "منتدى غاز شرق المتوسط"، ودبلوماسية "التنمية"، التي استعادت بها الدولة المصرية ريادتها القارية، نجد أن ثمة العديد من الملفات الأخرى، التي انطلقت منها "الجمهورية الجديدة"، لتكون "لبنة" مهمة في توسيع "دوائر القيادة" لـ"الجمهورية الجديدة" على كافة المستويات، منها على سبيل المثال "دبلوماسية المناخ"، والتي تمثل أولوية كبيرة، ليس فقط في النطاق الجغرافي التقليدي، حيث تبقى التداعيات الكبيرة لظاهرة التغيرات المناخية ممتدة، خاصة مع اقتراب القمة المقبلة، والمقررة انعقادها فى مدينة شرم الشيخ، في شهر نوفمبر، ناهيك عن دبلوماسية "الأمن" والتي تمثل أحد أهم محاور العلاقة مع الدول العربية، التي عانت تهديد الميليشيات فى العقد الماضي ومنطقة أوروبا الغربية، والتي لم تكن بمنأى عن تهديد العمليات الإرهابية، في السنوات الماضية، بالإضافة إلى "دبلوماسية الأزمة" والتي ترتبط بتنسيق المواقف الدولية في زمن الأزمات، على غرار وباء كورونا، والذي دفع نحو علاقات قوية مع العديد من الأطراف الدولية البعيدة جغرافيا، وعلى رأسها الصين، أو حاليا في ظل الأزمة الأوكرانية، التي تحمل تداعيات كبيرة على الاقتصاد العالمي.
فلو نظرنا إلى النشاط المكثف الذي يقوم به الرئيس عبد الفتاح السيسي، في الأيام القليلة الماضية، في إطار الزيارات التي أجراها، بدءً من المملكة العربية السعودية (منطقة الشرق الأوسط)، مرورا بألمانيا (أوروبا الغربية)، وحتى صربيا (أوروبا الشرقية)، نجد أن تمثل حالة من التنوع الجغرافي، من جانب، وطبيعة الملفات التي تحملها من جانب أخر، سواء خلال المشاركة في القمة العربية الأمريكية، التي انعقدت في مدينة جدة، والتي كانت بمثابة إعلان عن موقف عربي موحد، تجاه القضايا الإقليمية والدولية، بينما سيطرت "دبلوماسية المناخ"، على زيارة برلين، في ظل المشاركة في رئاسة حوار "بطرسبرج" في حين أن الزيارة إلى صربيا لا تخرج عن إطار التنسيق في إطار الأزمات الراهنة، والعمل على توسيع التعاون في مجابهة تداعياتها.
إلا أن الملاحظة الجديرة بالاهتمام، أن النهج القائم على "تقسيم الملفات" الدبلوماسية، لا يعني التركيز على ملف بعينه دون الملفات الأخرى، حيث تبقى هي الأخرى على طاولة النقاش، ولكن مع اختلاف الأولويات، وهو الأمر الذي يحقق في النهاية توسيع نطاق الدور الذي تلعبه الدولة المصرية في النطاق الدولي، ويعزز أهميتها على الساحة العالمية، مع تداخلها في مختلف القضايا التي تمثل اهتماما كبيرا في المرحلة الراهنة، بالإضافة إلى كونه فرصة مهمة من شأنها خلق مساحة أكبر للمناورة، من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، سواء على مستوى الداخل المصري، أو فيما يتعلق بالقضايا القومية العربية أو القارية بشكل عام،.
فالحديث على سبيل المثال عن القضية المناخية، في المحافل الدولية، من شأنه تعزيز القيادة المصرية، في إطار معسكر الدول النامية، وفي القلب منه القارة الإفريقية، حيث تقف مصر مدافعا عن حقوقهم في الحصول على دعم الدول المتقدمة حتى يمكنهم تحقيق التنمية المنشودة جنبا إلى جنب مع تقليل الانبعاثات الكربونية من جانب، في حين تعزز دورها، في الوقت نفسه على مستوى العالم المتقدم، باعتبارها دولة صاحبة تجربة تنموية، تحمل في طياتها معايير بيئية ملهمة، يمكن تصديرها في محيطها الجغرافي من جانب أخر، وهو ما يضفى قدرا كبيرا من الزخم، لحيوية الدور الذى تقوم به الدولة المصرية على كافة الأصعدة، ويمنحها ثقة دولية كبيرة فيما يتلعق بكافة القضايا الأخرى.
وهنا يمكننا القول بأن الدبلوماسية المصرية نجحت في اتخاذ نهج يعتمد على التوسع، عبر مسارين، أولهما جغرافي، من خلال استكشاف نقاط جديدة في علاقاتها الدولية، خرجت في الكثير من الأحيان عن نطاق دوائرها التقليدية، بينما يبقى الثاني قائما على تنويع الملفات التي يمكن التعامل معها، والتي تشكل أزمات عالمية، بدءً من الإرهاب مرورا بالمناخ والتنمية، وحتى أزمات الغذاء والطاقة، بحيث تصبح القاهرة مركزا للاستقطاب الدولي، فيما يتعلق بكافة القضايا الملحة على الساحة الدولية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة