على الرغم من أن العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي "الناتو"، تبدو سلسة، تقوم على التحالف، طويل المدى بين الجانبين، على اعتبار كونهما يحملان ولاءً منقطع النظير لنفس المبادئ، التي اعتمدتها الولايات المتحدة، منذ صعودها إلى قمة النظام الدولي، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، على غرار الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل ويعتمدان نفس الخصوم والحلفاء، في الإطار الدولي الواسع إلا أنها في واقع الأمر علاقة معقدة ومتشابكة، خاصة مع تواتر المستجدات الدولية في الآونة الأخيرة، إلى الحد الذي يصل إلى درجة التنافس، وربما ترتقي مستقبلا إلى الصراع، مع احتداد المواجهات الدولية المرتقبة، والتي بدأت من روسيا، وسوف تمتد، لا محالة، إلى الصين، مما قد يؤدى إلى التضييق على أوروبا الغربية، التي تسعى جاهدة في المرحلة الراهنة نحو البحث عن بدائل مرحلية، في ظل حالة من التخلي الأمريكي عنها في السنوات الماضية.
ولعل اختلاف البنية والدور بين المنظمتين، ساهم في خلق حالة تكاملية بينهما، فالاتحاد الأوروبي يحمل طبيعة سياسية، في الوقت الذى يطغى فيه الجانب العسكري على الدور الذي يقوم به الناتو، في حماية ما يسمى بدول "المعسكر الغربي"، حيث تبقى أوروبا الموحدة، بمثابة غطاء سياسي لـ"شرعنة" رؤى الحليف الأمريكي وقراراته، عبر مباركة الخطوات التي تتخذها واشنطن، في الإطار الدولي، حتى وإن كانت محلا للجدل، بينما يقوم الناتو، بتقديم الغطاء العسكري للقارة العجوز، في إطار صفقة أمريكية أوروبية، تشكلت ملامحها مع نهاية الحرب العالمية الثانية التي أنهكت الجيوش الأوروبية، ليتحول الناتو إلى درع لحمايتهم في مواجهة الخطر السوفيتى خلال الحرب الباردة، ثم استمر الوضع على ما هو عليه لما يقرب ثلاثة عقود كاملة بعدها.
إلا أن إرهاصات الشقاق بين أوروبا والناتو، تجلى بوضوح مع مواقف واشنطن، والتي تمثل القيادة الفعلية للناتو، المناوئة للقارة العجوز، خلال حقبة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بينما استمرت مع فشل الإدارة الحالية في إعادة العلاقة إلى نصابها، وهو ما يبدو في سياسة التوجه إلى الشرق التي بات يتبناها التحالف العسكري، والتي تحمل في طياتها العديد من الأبعاد، ربما أبرزها تخفيف الوجود العسكري في دول أوروبا الغربية، لصالح القوى الصاعدة في أوروبا الشرقية، على غرار بولندا، وكذلك فنلندا والسويد واللتين أثارتا قدرا كبيرا من الجدل بطلبهما الانضمام للحلف، من جانب، بالإضافة إلى خطورة مثل هذه السياسة على دول القارة العجوز من الناحية الأمنية، في ظل حالة الغضب الروسي جراء توسع الحلف، والذي يعد السبب الرئيسي في اندلاع الأزمة الأوكرانية، والتي تركت تداعيات كبيرة عليها، ارتبطت في معظمها بأمن الطاقة والغذاء، بينما تبقى المخاوف كبيرة فيما يتعلق بمواجهة محتملة، إذا ما خرجت الأمور عن النطاق المقبول.
خطورة مواقف الناتو تجاه أوروبا الموحدة، خاصة في الآونة الأخيرة، لا تقتصر على البعد العسكري، المتمثل في تقديم الحماية للحلفاء، في "المعسكر الغربي"، وإنما امتد إلى الجانب السياسي، عبر تبني استراتيجيات عدوانية تجاه المحيط الدولي للقارة، سواء فيما يتعلق بروسيا، والتي وإن كانت تمثل خصما تاريخيا للغرب، إلا أن ثمة تعاون ملموس بينهما في العديد من الملفات أبرزها ملف الطاقة، تجلى بوضوح في السنوات الماضية، أو الصين، والتي تمثل هدفا أخر للولايات المتحدة، وهو ما بدا في إطلاق المفهوم الاستراتيجي الجديد الذي تبناه الحلف في قمته الأخيرة، والذي اعتبر بكين تحديا لقيم الحلف.
وهنا نجد أن ثمة تحرك صريح من قبل الناتو نحو تجريد أوروبا الغربية، من عنصري الحماية، التي طالما قدمها الحلف لها منذ اندلاع الحرب الباردة، عبر التوجه شرقا، وهو ما يخلق شقاقا داخل الاتحاد الأوروبي، ويمهد للمزيد من التفتيت في أوصاله، عبر شراء ولاء دول صغيرة نسبيا على حساب التكتل القارى، في الوقت الذي يسعى فيه نحو حرمانها من إيجاد بديل من شأنه تعويض الخلل الذي نتج عن حالة التخلي الأمريكي، سواء من الناحية الاقتصادية والتي تشهد عجزا كبيرا بسبب القرارات الأمريكية التي اتخذتها إدارة ترامب بحجب العديد من المزايا التي يتمتع بها الحلفاء الأوروبيين خاصة فيما يتعلق بالتجارة، أو تداعيات الحرب الأوكرانية، والتي امتدت مخاطرها إلى الغذاء والطاقة.
وهنا يمكننا القول بأن المفهوم الاستراتيجي الجديد الذى أطلقه الناتو، ربما لا يقتصر على عودة العداء لروسيا، واستعداء الصين، وإنما حمل في طياته بذور الصراع مع أوروبا، استكمالا لحالة من التنافر، شهدتها العلاقة بين الحلف والاتحاد الأوروبي، في السنوات الأخيرة، دفعت إلى دعوات صريحة نحو الخروج من عباءة التحالف العسكري، على غرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي دعا إلى تشكيل جيش أوروبي موحد، في ظل ما أسماه "الموت الإكلينيكي" للحلف.