بعد أربعة أيام من وفاة الموسيقار بليغ حمدى فى باريس يوم 12 سبتمبر 1993، شيعت جنازته من مسجد عمر مكرم بالقاهرة فى 16 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1993، كانت الجنازة مهيبة وفقا لجريدة الأخبار فى 17 سبتمبر 1993، حيث شارك فيها وزير الثقافة فاروق حسنى، ووزير الصناعة المهندس محمد عبدالوهاب، ورئيس هيئة الاستعلامات الدكتور ممدوح البلتاجى، والدكتور عبدالحليم نور الدين رئيس هيئة الآثار، والكاتب الصحفى أنيس منصور، وسعد الدين وهبة رئيس اتحاد الفنانين العرب، والسيد راضى رئيس الاتحاد العام للنقابات الفنية.
وتلقى العزاء، شقيقه الدكتور مرسى سعدالدين، وابن أخيه هيثم، ومن أصدقائه المقربين الشاعر عبدالرحمن الأبنودى، والمطرب محمد رشدى، والمطربة حورية حسن، والموسيقار صلاح عرام، وشارك فى الجنازة من الموسيقيين، ماهر العطار، وكمال الطويل، ومحمد سلطان، ومحمد الموجى، وسليم سحاب، وحسن أبوالسعود، وحلمى أمين، ومن المطربين، شريفة فاضل، محمد منير، محرم فؤاد، محمد العزبى، ومن الفنانين، أنعام محمد على، نادية لطفى، محمود ياسين، عزت العلايلى، سمير صبرى، محمود عبدالعزيز، محمد توفيق، جورج سيدهم، ومن المخرجين، حسين كمال، وعاطف سالم.
تميزت الجنازة بمشاركة عدد غفير من المواطنين، وتكرر ذلك فى ليلة العزاء، وكان ذلك وغيره مما أثاره المطرب محمد رشدى حين ذهبت إليه لتقديم واجب العزاء فى رفيق دربه، وسجلت ما ذكره لى يومها فى كتابى «مذكرات محمد رشدى».
كان «رشدى» حزينا مهموما، يرتدى جلبابا أبيض، وتدفق باكيا:« آه يابليغ يا حبيبى، يا ابن عمرى، بكايا هيفضل عليك العمر كله، على حلم وكفاح وأمل، وإحنا فى العزاء، كان جنبى كمال الطويل، لفتت الزحمة نظره، ناس كتير من كل صنف ولون، سألنى:«إيه الحكاية يا محمد، كل الناس دى عشان بليغ؟»، قلت له: «هى دى الناس يا كمال..اللى يعيش للناس عمره ما يموت جواهم، وبليغ عاش للناس»، رد:«عندك حق، بليغ فى موته بيرد الاعتبار لنا كلنا».
ذكر «رشدى» مآثر صديق عمره على الموسيقى العربية، قائلا:«المصرى لا يمكن أن يتنازل عن تراثه وشخصيته، والاستعمار من نابليون بونابرت لما جاء بالحملة الفرنسية حتى احتلال الإنجليز لمصر عرفوا أصالة المصريين فى الحكاية دى، بليغ وضع إيده على الميزة دى، عظمته إنه سمع الغرب ودرسه، وتأثر به فى حدود، وفهم، عمل موسيقى بريئة من طينة مصر، أنا أشبهه بنجيب محفوظ، وأشبه محمد عبدالوهاب بتوفيق الحكيم، حلم بليغ كان فى أغنية عربية قومية ملامحها من التراث، وفى فترته الأخيرة كان مجنونا بالتراث، لما كان بيجهز موسيقى مسلسل «بوابة الحلوانى»، ولأنها عن أيام عبده الحامولى والخديو إسماعيل بحث عن كتب، وسأل، وقرأ عن الحامولى، كان يفاجئنى: «الناس دى يا محمد عملت إنجازات عظيمة فى الموسيقى، وواجب علينا نكملها».
أضاف:«كان مؤمنا بأنه فرع فى شجرة عبده الحامولى وسيد درويش وغيرهما، وأنا صدقته، أنا شاهد على أن ملك المغرب الملك الحسن الثانى استضافه، وقال له :«لف المغرب، ابحث لى عن تراثنا الموسيقى»، مثلا فى أغنيتى «لا،لا، يالخيزرانة»، التقط لحنها من تراث الجزيرة العربية، كان فى السعودية، وسمع نغمة شعبية، جرى وراها».
استرسل رشدى: «بليغ كان مؤسسة، ثائرا، وزعيم ثورة فى الموسيقى، يعنى كان يرى أن محمد رشدى متمسك بمصريته فيعطيه «الأغنية المحلية»، ويعطى لعفاف راضى الأغنية «العلمية»، ويعطى لوردة الأغنية «القومية»، ويعطى لعبدالحليم «الأغنية الشاملة، ولما وجدنى غرقان فى المحلية، عمل لى «مغرم صبابا» و«وميتى أشوفك» و«طاير يا هوا»، كنت قلقان، لكنه كان هو بعيد النظر وكسب رهانه، وكل ما أشوف الناس ملهوفة على الألحان دى، أعرف إنه كان بعيد النظر، كمان لما وجد فى شادية البنت المصرية، عمل لها «خلاص مسافر»، و«قولوا لعين الشمس ما تحماشى»، «يا حبيبتى يا مصر»، «آخر ليلة»، وألحان تانية كتير، وبالطريقة دى وضع كل الخيوط فى إيده، وانسحب عبدالوهاب لما فهم الحالة، لكن حاسة التاجر كانت صاحية عند عبدالوهاب، فتعاقد معه، وفتح له استديوهات شركة «صوت الفن» ليعمل كل تجاربه مع نجاة وشادية وعبدالحليم ورشدى وغيرهم»، قال:«على فكرة عبدالوهاب كان دايما شايل فى نفسه من بليغ، بدليل اللى قاله: «بليغ كان يبدأ بالذهب والفضة، وينتهى بالنحاس والصفيح»، رأى فيه ظلما قويا لبليغ، الحقيقة بليغ كان يبدأ بالدهب وينتهى بالدهب، طول عمر عبدالوهاب، كان عنده حاجة من ناحية بليغ».
كان «رشدى» يقصد حلقات الشاعر فاروق جويدة المنشورة بمجلة «الوسط» اللندنية بعنوان «عبدالوهاب أوراق خاصة جدا»، بعد نحو عام من وفاة عبدالوهاب «3 مايو 1991»، وقال فيها حسبما جاء فى الكتاب الذى حمل نفس العنوان: «بليغ حمدى، ومضات من الماس مركبة على تركيبات من الصفيح، أحس فى ألحانه بأنه عثر على جملة جميلة جدا تدخل فى وجدان الناس لما فيها من جمال وشخصية، وقد أحاطها بأى كلام ليكون قد انتهى من عمل يحسب له».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة