"يا صبر أيوب"
أما عن الأخلاق فقد ذكرت فى المقالات السابقة أنها هى المنظم الأساسى للعلاقات بين الناس، وهى أساس صلاح واستقامة المجتمع ورقيه وتقدمه والذى إن شحت به القيم و الأخلاقيات الحميدة سقط وانهار وتفشت به الجرائم و انعدمت فيه الرحمة واختفى العدل وقلت البركة والمودة بين الناس.
وكما ذكرت أيضاً أن الأخلاق ومكارمها وفضائلها لا تقتصر على ما ورد فى الكتب السماوية الثلاث ولكنها نشأت مع بدايات نشأة الإنسان وظهور العلاقات الاجتماعية بين الناس، أى أنها وُلدت على أقدم وأعرق بقعة على وجه الأرض "مصر" فجر ضمير الإنسانية ومهد الحضارة وأرض الأنبياء ومنبع الأمن والأمان والأخلاق.
أما عن القيمة الأخلاقية التى يختصها مقال اليوم ضمن سلسلة مكارم الأخلاق هى "الصبر".
فقد قال المولى عز و جل
﴿إنى جزيتهم اليوم بما صبروا﴾
لم يقل الله :
بما صلوا
أو بما صاموا
أو بما تصدقوا
بل "بما صبروا"
ﻷن الصبر عبادة تؤديها وأنت تنزف وجعا!!
الصبر فى المفهوم العام ببساطة هو الحبس والمنع، وهو حبس النفس عن الجزع، و قد أثبت العلم الحديث ان للصبر فوائد جمة.
الصَّبْرُ - صَبْرُ: التجلُّد وحسن الاحتمال.
الصَّبْرُ عن المحبوب: حَبْسُ النفس عنه.
الصَّبْرُ على المكروه: احتماله دون جزع.
شهر الصَّبر: شهر الصوم، لما فيه من حَبْس النفس عن الشهوات.. المعجم الوسيط[1]
فالصبر بمجمل أنواعه ومجالاته: تعبير عن قوة إرادة الإنسان، وكمال عقله، وبُعده عن التسرع والطيش والرعونة، وتعامُله مع أمور الحياة ومشكلاتها بحكمة وتحمُّل ومسؤولية.
فما أحوجنا الآن إلى هذه الفضيلة العظيمة التى إن تحلى بها المرء فاز فوزاً عظيماً فى الدنيا والآخرة .
فلم يعد هناك للأسف فى تلك الآونة معنى للصبر و لا تعريف له فى قاموس لغويات الأجيال الحالية!
فعلى سبيل المثال:
ما يمر به الوطن منذ الثورة على الفساد و الإستبداد ثم الجماعة المحتلة الخائنة و حتى الآن من تحديات و عثرات و حروب خفية و أخرى مُعلنة سياسياً واقتصادياً ودينياً و ثقافياً ، و الذى كان يستلزم الصبر ثم الصبر دون نفاذ لدى جميع المصريين لننجو به و نخرجه سالماً من بين فكى الشر ذوو الأنياب الزرقاء فى الداخل و الخارج، و لكن الكثير منا بكل أسف لا يقو على الصبر الجميل بل و يختزل الأزمة برمتها فى مسألة غلاء الأسعار، والتى أعلم جيداً مدى صعوبتها ولكنها إن دققنا النظر جيداً سنجدها أخف وأيسر مئات المرات عن غيرها من الشدائد والتى كدنا نسقط بها مرات لولا عناية الله التى لا تغفل عن مصر بحفظها كلما اشتدت الأزمات .
فهل لنا أن ننظر من حولنا نظرة تأملية أكثر عمقاً من تلك التى لا تتخطى الأقدام، لنرى هذا الكم الهائل من النعم التى ننعم بها دون أن نسعد ونشكر الله كثيراعلى هذا الَقدَر الذى منحه إيانا، إذ نجانا من الغم وأخرجنا من حلق الضيق إلى أوسع الطريق و أرسل لنا من يحمينا و يحنو علينا ويتصدى لعدونا بكل ما آتاه الله من قوة بقيادة جيش عظيم من خير أجناد الأرض ، هذا غير البناء الذى لم يتوقف يوماً منذ ولاه الله علينا و حتى يومنا هذا ليسابق الزمن ويتحدى عقارب الساعة التى لا ترحم فيقطع الوقت قبل أن يقطعه كالسيف، لنرى بأعيننا منشآت ومدنا وطرقا ومزارع لم نكن نحلم بوجودها فى هذا التوقيت القياسي، والتى كانت لتستغرق عشرات السنوات بالحسابات المعتادة ، فضلاً عن الأمن و الامان و الإطمئنان الذى كاد أن يُسرق منا بين ليلة وضحاها، لكن الله سلم.
ولكن للبعض أعين لا يرون بها، وآذان لا يسمعون بها، وعقول لا يفقهون بها، و صدور تضيق حتى بأنفاسها، ولا تعرف للصبر أية معنى أكثر من عدد حروف الكلمة!
"يا صبر... أيوب!"
إليكم أعزائى هذه القصة التى تضرب المثل الأعظم فى الصبر، وعدم اليأس من رحمة الله تعالى, تلك الفضيلة التى تظهر ساعة المحن..
فنبى الله أيوب أعطى درسا عظيما فى الصبر والاحتساب والرضا بقضاء الله تعالى، ليصفه المولى عز وجل بقوله:
" إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ "[ص:44] .
جاءت بداية الابتلاء بأن مات كل أهله إلا زوجته، وابتلى فى جسده بأنواع عدة من الأمراض، ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما المولى عز وجل، وهو صابر محتسب، يذكر الخالق فى ليله ونهاره وصبحه ومسائه، ثم طال مرضه وانقطع عنه الناس، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته التى ضعف حالها وقل مالها، حتى باتت تخدم فى البيوت بالأجر؛ لتطعم زوجها المريض،
أما الزوجة الوفية فقد عاشت مع زوجها محنته طوال ثمانية عشر عامًا فكانت مثالا للمرأة البارة بزوجها الحانية عليه.
ورغم المرض الشديد والابتلاء القاسى الذى تعرض له نبى الله أيوب عليه السلام، إلا أنه كان ذا قلب راض وصابر، ولم يسخط لحظة
وبعد كل هذه المعاناة توجه أيوب إلى ربه بالدعاء، يطلب منه كشف ما به من بلاء
" أَنِّى مَسَّنِى الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ " [الأنبياء:83] و " أَنِّى مَسَّنِى الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ " [ص:41] .
واستجاب الله دعاءه، وكشف عنه بلاءه، و رد عليه عافيته وصحته و ضعفى المال الذى فقده، وضعفى ما كان عنده من الأولاد .
فانظر أيها اليائس وتفكر هل أصابك من الضر مثل ما أصاب أيوب عليه السلام ؟ هل فقدت جميع أولادك وبناتك؟ هل فقدت كل مالك؟ هل فقدت صحتك وعافيتك؟ هل تنكر كل الناس لك؟ هل لبثت فى الابتلاء سنين وراء سنين صابرًا محتسبا مثل أيوب عليه السلام؟
وقد أمر الله تعالى الأنبياء والمرسلين بالصبر ، وخصَّ بالأمر سيدَ المرسلين عليه الصلاة والسلام، فقال له:
﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]،
وقال: ﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ﴾ [القلم: 48]،
وقال: ﴿ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴾ [المدثر: 7]،
بل أمره بالصبر الجميل، فقال: ﴿ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾ [المعارج: 5]، وهو الصبر الذى لا يَصحَبه جزَعٌ ولا شكوى.
وأمر المؤمنين بالصبر والمصابرة، فقال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200]،
والمصابرة: بمعنى المغالبة التى تستلزم من المؤمن الثباتَ على منهج الصبر.
قال تعالى: "وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" [البقرة: 155].
قال تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [هود: 11]، ،
وقال: ﴿ وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص: 80]
و خير ختام لمقال اليوم عن فضيلة الصبر كلمات النبى الكريم صلوات الله و سلامه عليه :/
عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: قبضتُم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتُم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجَع، فيقول الله: ابنوا لعبدى بيتًا فى الجنة وسَموه بيت الحمد))
و عن محمود بن لبيد رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن صبَر فله الصبر، ومَن جزِع فله الجزع))
وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول:
((إن الله قال: إذا ابتَليتُ عبدى بحبيبتيه فصبَر، عوَّضتُه منهما الجنة))، يقصد عينيه
وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((يقول الله تعالى: ما لعبدى المؤمن عندى جزاء إذا قبَضت صفيَّه من أهل الدنيا، ثم احتسَبه - إلا الجنة)).
وعن فضيلة الصبر بالكتاب المقدس( الإنجيل):
فَرِحِينَ فِي ٱلرَّجَاءِ، صَابِرِينَ فِي ٱلضِّيْقِ، مُواظِبِينَ عَلَى ٱلصَّلَاةِ.
رُومِيَةَ ١٢:١٢
ٱنْتَظِرِ ٱلرَّبَّ وَٱصْبِرْ لَهُ، وَلَا تَغَرْ مِنَ ٱلَّذِي يَنْجَحُ فِي طَرِيقِهِ، مِنَ ٱلرَّجُلِ ٱلْمُجْرِي مَكَايِدَ.
اَلْمَزَامِيرُ ٣٧:٧
بِكُلِّ تَوَاضُعٍ وَوَدَاعَةٍ وَبِطُولِ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي ٱلْمَحَبَّةِ.
أَفَسُسَ ٤:٢
وإلى لقاء مع فضيلة أخلاقية جديدة من مكارم الأخلاق.