كان الوقت صباح 16 يناير، مثل هذا اليوم، 1950، حين بدأ مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء فى إلقاء خطاب العرش، بعد أن صدر مرسوم ملكى بتأليفه يوم 12 يناير على أثر فوز حزب الوفد بالأغلبية فى انتخابات مجلس النواب يوم 3 يناير، 1950، وحصل فيها على 228 مقعدا، و30 مقعدا للمستقلين، و28 للسعديين، و26 للأحرار الدستوريين، و6 مقاعد للوطنيين، ومقعد واحد اشتراكى، وفقًا لعبدالرحمن الرافعى فى الجزء الثالث من كتابه «فى أعقاب الثورة المصرية - ثورة 1919».
اختار النحاس، عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين وزيرا للمعارف فى هذه الوزارة، واشترط «العميد» أن يكون التعليم مجانيا للثانوى والفنى فوافق النحاس، وفقًا للدكتور محمد حسن الزيات وزير الخارجية أثناء حرب أكتوبر 1973، وزوج ابنة طه حسين فى كتابه «ما بعد الأيام».
يذكر «الزيات» أن طه حسين أعد الفقرة الخاصة بمجانية التعليم فى خطاب العرش، وقالها النحاس، وكانت: «أعلن باسم الملك أن حكومتى ترى أن خير الوسائل لرفع مستوى الشعب وتمكينه من الحياة الخصبة المنتجة التى تنفعه، وتنفع الناس، وتحفظ على المواطن مكانته بين الأمم المتحضرة وتهذيب أخلاقهم، وتزويدهم بكل الوسائل التى تتيح لهم الجهاد المنتج فى سبيل الرقى والتقدم، ولذلك فهى لن تبخل بأى جهد لنشر التعليم وتيسيره، والتوسع فى مجانية التعليم حتى تصل به إلى المجانية الشاملة، تحقيقًا لتكافؤ الفرص لجميع المواطنين دون تفريق، وقد قررت فعلًا مجانية التعليم الابتدائى والثانوى والفنى منذ اليوم».
يلقى المفكر التربوى الكبير الدكتور سعيد إسماعيل، إطلالة تاريخية على دور طه حسين فى هذه القضية، وكذلك أحمد نجيب الهلالى، ويذكر فى مقاله «مؤسس مجانية التعليم فى مصر الحديثة» المنشور على «موقع المصريون، 6 ديسمبر 2013»، أن ما حدث خلال ثورة يوليو 1952 كان قرار بمجانية التعليم العالى، جاء فى خطاب لجمال عبدالناصر فى يوليو 1962، بعد أن كانت قد ترسخت فى التعليمين الابتدائى عام 1944، والثانوى عام 1950، على يد طه حسين.
يذكر أن طه حسين كان يسخر سخرية شديدة من بعض الآراء التى قيلت تحت قبة البرلمان فى مقال له بجريدة كوكب الشرق «31/3/1933»، ذلك أن هذه الآراء بدا أنها تنظر إلى التعليم وكأنه ترف لا ينبغى لسواد الناس أن تتلقاه، وكأن انتشاره يمكن أن يؤدى إلى خطر اجتماعى ويعين على الشيوعية، فهذا واحد ينذر مصر بخطر داهم إذا لم تعدل عن هذا التعليم الإلزامى «فهو وسيلة الاشتراكية والشيوعية، وإذا فالأمية خير منه»، وعلى ذلك فإن قائل هذا ينظر إلى المصريين نظرة مؤسفة حقًا، فهو يريد أن يعنى بأجسامهم لا بعقولهم، وبالتالى فهم كالحيوانات، مفروض أن نعنى بأجسامها حتى تنتج لنا ما نريد».
يضيف: «فى الرابع من فبراير عام 1942، تشكلت حكومة الوفد، برئاسة النحاس، واختير أحمد نجيب الهلالى وزيرًا للمعارف، والذى اختار بدوره الدكتور طه حسين مستشارًا فنيًا للوزارة، حيث تشير وقائع الأحداث التعليمية زمنها بأن بصمته ظاهرة، وفكره حاكم وموجِّه، وهو ما يتضح من التقرير الخطير الذى صدر فى نوفمبر عام 1943 بعنوان «تقرير عن إصلاح التعليم فى مصر»، ووفقًا لما جاء فى صفحة 34، فقد لوحظ أن تلميذ المدرسة الابتدائية فى مصر كان يدفع 10 جنيهات، بينما تكلفته 24 جنيها، ويدفع 20 جنيها فى التعليم الثانوى، بينما يتكلف 43 جنيها، ولما كانت الكثرة الغالبة من الفقراء لا يستطيعون دفع هذه المصروفات، فكان هذا يعنى أن الدولة تدعم الأغنياء».
قدم «الهلالى» هذا التقرير إلى مجلس النواب لمناقشته، واستمرت المناقشات أيام 3، 4، 5، و10، 12 يناير عام 1944، وفى بداية المناقشة أكد «الهلالى» على أهمية أن يكون التعليم حظا شائعا بين المواطنين جميعا، يقوم أمرهم فيه على المساواة التى هى أساس الديمقراطية التى يكفلها الدستور «1923»: «لأنه ليس من العدالة الاجتماعية أن تكون مهمة الطبقة العاملة أن تكدح وتكدح، وننكر عليها حقها فى التفكير وفى الاستمتاع بنور العلم»، وبالفعل صدر قرار وزارى بتقرير مجانية التعليم فى عام 1944 لطلاب التعليم الابتدائى، وكان هذا أول الغيث، منذ أن أن أُلغيت المجانية فى أواخر القرن التاسع عشر، زمن الاحتلال البريطانى.
وجاءت مجانية التعليم الثانوى عام 1950، وحين سأل مندوب صحيفة النداء «28/2/1950» طه حسين عن رأيه فيما نشر من أن بعض المدارس طردت طلبة لتأخيرهم فى دفع المصروفات، فقال: «كل مدرسة يطرد منها طالب بسبب المصروفات يطرد ناظرها فورا لأنه خالف أمرا صريحا لوزير المعارف لأن المجانية التزام التزمت به الحكومة الشعبية أمام البرلمان، وهو لذلك واجب التنفيذ».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة