مع صعود الولايات المتحدة إلى قمة النظام الدولي، فى الأربعينات من القرن الماضى، بعدما ساهمت بالجزء الأكبر من انتصار "الحلفاء" فى الحرب العالمية الثانية، اتجهت نحو فرض رؤيتها، القائمة على "العولمة"، على المعسكر الموالى لها، وهى الرؤية التى تبدو للوهلة الأولى، مرتبطة بالانفتاح الاقتصادي، فى إطار حرية التجارة، وتدفق رؤوس الأموال، والتنقل، وتشجيع الاستثمار، إلا أن تلك الرؤية تبدو ممتدة، لتشمل "عولمة" المفاهيم والمبادئ التى تتبناها واشنطن، على غرار الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتداول السلطة، وهو الأمر الذى بدأ تدريجيا مع محيطها الغربي، ثم تحول إلى نهجا عالميا، مع استئثارها بالقيادة الدولية، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ليصبح المفهوم أكثر شمولا ليحمل فى طياته أبعادًا تبدو خطيرة، على غرار "عولمة" الأزمات، وهى الحالة التى تجلت بوادرها مع "الحرب على الإرهاب"، عندما رفع الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن شعار "من ليس معنا فهو ضدنا"، ثم تجلى مجددا مع الأزمة المالية العالمية، فى حين تبدو فى أبهى صورها مع الأزمات الراهنة، وعلى رأسها الوباء والأزمة الأوكرانية.
وبين الرؤية القائمة على "العولمة"، والمفاهيم التى سعت واشنطن إلى تعميمها، ثمة العديد من المراحل التى شهدت تناقضات عميقة، ربما أبرزها تحول الهدف من تلك الرؤية من مجرد تحقيق التنمية الجماعية، إلى ما يمكننا تسميته بحالة "تصدير الأزمات"، فى إطار دوران دول العالم فى فلك القوى المهيمنة، وبالتالى ارتباط مصائرها بالسياسات التى تتبناها على كافة الأصعدة، فى صورة تبدو "ديكتاتورية"، فى ظل غياب مفهوم الديمقراطية التى روجت لها واشنطن، على مستوى شعوب العالم، منذ عقود عن المشهد الدولي، حيث تبقى مركزية صناعة القرار الدولى فى "البيت الأبيض"، لتعميم الرؤى والمبادئ بحذافيرها فى كل دول العالم، وهو ما فشلت واشنطن فى تحقيقه مرارا وتكرارا، بدء من العراق وافغانستان مرورا بكوريا الشمالية وحتى الصين وإيران وغيرهم، نظرا لاختلاف الظروف والبيئة والثقافات فى كل منطقة عن الاخرى، إلا أن سلسلة الفشل المتوافر توارى خلف احتفاظ أمريكا بقيادتها للغرب وغياب القوى القادرة على منافستها على قمة العالم.
إلا أن صعود بعض القوى القادرة على مزاحمة واشنطن على قمة النظام الدولي، وعلى رأسها الصين، مع نجاح روسيا على استعادة قدر كبير من نفوذها، ساهم بصورة كبيرة فى بروز حالة من الخلل فى "بنية" النظام الدولى فى صورته الحالية، وهو ما بدا فى حالة الانقسام فى المعسكر الغربي، نظرا لغياب "المقاربات"، فى ظل "ديكتاتورية" أمريكية دولية، ليتحول الحلفاء نحو البحث عن بدائل عبر تعزيز التعاون مع خصوم الولايات المتحدة، وهو ما بدا فى سنوات الادارة السابقة فى الانفتاح على موسكو فيما يتعلق بمجال الطاقة والصين من خلال تعزيز التجارة، ردا على الاجراءات الأمريكية، والتى تبدو عدائية تجاه أوروبا الغربية، بفرض التعريفات الجمركية على الواردات القادمة من دول القارة العجوز، ومحاولاتها المستميتة لتفكيك الاتحاد الأوروبي، ودعم تيارات اليمين المتطرف.
وهنا يبدو غياب "المقاربات" بمثابة السبب الرئيسى فى عجز الرؤية الأمريكية، على الصمود فى مواجهة التغييرات الكبيرة فى المشهد العالمي، خاصة فى زمن الأزمات، وهو ما يترجم حالة الانقسام، متعدد الأبعاد، سواء على المستوى الدولي، مع انفراط، ولو جزئي، فى المعسكر الغربي، والذى يمثل العمق الاستراتيجى للولايات المتحدة، أو على المستوى العالمي، فى ظل تمرد شعبوى فى أعتى الدول الديمقراطية، وعلى رأسها أمريكا نفسها مع زيادة وتيرة الاضرابات والاحتجاجات على ما تسفر عنه نتائج المنظومة التى تشكل أساسا للبنية العالمى منذ عقود، على غرار تلك التى ارتبطت بنتائج الانتخابات وانتقال السلطة ناهيك عن سياسات الحدود المفتوحة وغيرها.
فلو نظرنا للنموذج الألماني، والذى طالما اعتمدت عليه واشنطن كحليف رئيسى وبديلا لقوى أوروبا الرئيسية (بريطانيا وفرنسا)، منذ سقوط حائط برلين، ربما نجد أنه بات نموذجًا للتقلبات فى المشهد الدولى برمته، عبر مشهدين أولهما محاولة الانقلاب على السلطة الشهر الماضي، وهو ما يعكس تغييرا كبيرا، فى الداخل، ينم عن انقسام عميق، فى بنية السياسة الألمانية، بينما يتجلى المشهد الثانى فى استقالة وزيرة الدفاع كريستينه لامبريشت، على خلفية رفضها إمداد أوكرانيا بالدبابات، فى انعكاس للضغوط الأمريكية فى إطار "ديكتاتوري" من جانب، والانقسام الكبير حول الموقف من القيادة الامريكية نفسها، والتى تراجعت مصداقيتها إلى حد كبير أمام أقرب حلفائها من جانب آخر.
وفى الواقع، تبدو الثقة المتراجعة فى واشنطن بين حلفائها، أعمق من التغييرات الطبيعية، الذى تشهده العلاقات الدولية، حيث يمثل فى جوهره خروجا صريحا على حالة "الديكتاتورية" الدولية التى تتبناها الولايات المتحدة فى التعامل مع حلفائها، فى ظل فرض رؤيتها ومواقفها على محيطها الدولي، وهو ما يتعارض مع النهج العالمى القائم على الديمقراطية، وهو ما يعد سببا رئيسيا فى حالة الخلل وانعدام التوازن فى ظل التناقض الصريح بين الرؤيتين العالمية والدولية فى الإدارة الأمريكية الاحادية للعالم.
وهنا يمكننا القول بأن الحاجة باتت ملحة لمقاربات دولية جديدة من شأنها تحقيق التوازن، ليس فقط فيما يتعلق بتعددية القيادة الدولية الحاكمة، وإنما أيضا إعادة صياغة الرؤى التى تمثل أساس بنية النظام العالمي، على غرار الديمقراطية التى تبدو بحاجة إلى مفهوم أكثر مرونة، على مسارين متوازيين، أولهما مراعاة ظروف التطبيق على المستوى العالمي، باختلاف الدول والمناطق المستهدفة من جانب، وهو ما يعتمد على مسار آخر يقوم فى الأساس على تحقيق المفهوم على المستوى الدولي، عبر ترك مساحة للدول أعضاء المجتمع الدولى لتبنى مواقف تتواءم مع مصالحها ورؤيتها تجاه كافة القضايا الدولية، وهو ما تتمخض عنه الحقبة الجديدة فى النظام الدولي.