أشاهد مؤخرا حلقات تليفزيونية على إحدى المنصات تتحدث عن السلطان العثماني محمد الفاتح وسقوط القسطنطينية، وكيف أن "المدفع" كان هو صاحب الصوت الأعلى فى سقوط المدينة الحصينة التي حاول 23 جيشا قبل محمد الفاتح أن يسقطوها لكنهم فشلوا بسبب قوة أسوارها وحسن تحصنها، وقد ذكرتني هذه الحلقات بفعالية ثقافية شهدتها منذ سنوات، ففى إحدى المناقشات العلمية، التى شهدتها سنة 2018، وكانت عن فن الاعتذار فى الأدب الأندلسى، وهي رسالة دكتوراه فى جامعة عين شمس، مقدمة من الباحث أحمد عبد القوى، وقد أشرف عليها الدكتور محمد زكريا عنانى، والدكتور محمد يونس عبد العال، وشارك فى مناقشتها الأستاذ الدكتور سليمان العطار، والدكتور أشرف نجا، وقد كانت مناقشة الدكتور سليمان العطار، بمثابة محاضرة عظيمة فى واقعنا العربى والإسلامى تستحق التوقف عندها.
تحدث الناقد والمترجم الكبير المرحوم سليمان العطار، عليه رحمة الله، عن تاريخ الأندلس وتوقف عند سنة 1492 الشهيرة، وقال إن الأندلس سقطت فى هذا العام، وذلك بعدما سقطت مملكة غرناطة التى ظلت تقاوم سنوات طويلة، أما عن كيفية سقوطها، فيقول إنه ذات مرة وجد كتابًا صغيرًا يباع فى إسبانيا وسط الكتب القديمة بعنوان "مملكة غرناطة"، وعرف منه أن الدولة الإسلامية سقطت بسبب استخدام المدفع ضدها.
لم يتخيل المسلمون المتحصنون خلف أسوار المدينة أنه يمكن للعدو أن يصيبهم عن بعد بهذه الطريقة، وأن يقتل عددًا منهم مرة واحدة دون سيف أو رمح أو حتى سهم، ولم يتخيلوا أن يهدم سورًا دون أن يروا منجنيق أو خلافه ولم يستوعبوا الصوت الذى انفجر فى السماء، فسقطوا.
قال سليمان العطار، إن أحد علماء المسلمين استطاع أن يعرف سر صناعة المدفع، وألف كتابًا فى ذلك سماه «ناصر الدين على القوم الكافرين»، وطاف به على كل ملوك المسلمين كى يتبنوا الفكرة ويصنعوا مثله لكنهم لم يفعلوا ذلك، ومن يومها انطلق الغرب مستعمرًا ومسيطرًا، بينما تحول العرب والمسلمون إلى ضحية كبرى.
لقد غير المدفع استراتيجيات التفكير فى العالم، وضع مفهومًا جديدًا للقوة، مفهومًا قائمًا على العلم وليس العدد، أى أنه قدم تفسيرًا مختلفًا للشجاعة، التى كانت من قبل تعنى شخصًا ضد شخص، وتحمل معنى المبارزة، لكن الأساليب الجديدة فى الحرب كانت تفيد بأن الرب يسعى بقوة للنهوض من سباته بينما كان العرب والمسلمون يستعدون للنوم.
قرون مرت على هذه التواريخ، تطورت الحروب وتغيرت سبل الحياة، وقامت حروب وثورات وأنظمة حكم، وسقطت دول ونشأت أخرى، وتغيرت موازين القوة أكثر من مرة، لكن طرق التفكير العلمية لم تأخذ فى مجتمعنا العربى المكانة التى تليق بها، مع أنه لم يعد الأمر رفاهية مثلما يظن البعض ويعتقدون أنها أسس لاستمرار الحياة ليس إلا.