فاجأتني أحد الشركات الأجنبية العاملة في مصر بمجال المشروبات الغازية والمياه المعدنية، باتصال هاتفي قبل عدة أيام، تعرض إمكانية شراء منتجاتها من خلال أحد مندوبيها بأسعار خاصة جداً، تقل 25% تقريباً عن المتاح في الأسواق لدى تاجر التجزئة، بالإضافة إلى خدمة توصيل مجانية، حتى باب البيت، بأي كميات أطلبها من المياه المعدنية أو المشروبات الغازية.
مع وجاهة العرض المقدم من الشركة، وقدرة مندوب المبيعات على الإقناع، ووطأة الأسعار التي تتغير يوماً بعد الآخر نحو الارتفاع، لم أستطع المقاومة، ووافقت على تنفيذ "أوردر" عبارة عن 4 كرتونة مياه من الحجم الكبير، نظير 55 جنيها للواحدة، على أن يكون التسليم خلال 24 ساعة من الطلب، من خلال فاتورة معتمدة من الشركة، تشمل كل محتويات الشحنة وتفاصيلها ورقم للشكاوى والمتابعة.
في ظل موجة الغلاء الأخيرة، وارتفاع معدلات التضخم، وما لحقه من تخفيض قيمة الجنيه المصري، 3 مرات في أقل من عام واحد، وصل سعر زجاجة المياه المعدنية أو المعبأة – أيهما أقرب للصواب - داخل السوبر ماركت 6 جنيهات، أي أن الكرتونة الواحدة التي يوجد بها 12 زجاجة سعة 1.5 لتر، يصل سعرها 72 جنيها، الأمر الذي يجعل هناك وفر في التكلفة حوالي 17 جنيها، عند المقارنة مع عرض الشركة – 55 جنيها للكرتونة - في 4 عبوات، لتصبح النتيجة النهائية توفير 68 جنيهاً، بالإضافة إلى مجانية خدمة التوصيل، وإمكانية طلب أي كمية يرغب العميل في شرائها.
التسويق الكمي، والسعي نحو القواعد الشعبية من الجماهير العريضة، واتجاه الشركات الكبيرة إلى مخاطبة المستهلكين بعروض ترويجية مبتكرة، دون التوقف عند فكرة تسويق منتجاتها لدى تجار الجملة أو التجزئة، خاصة في ظل الأزمة المالية التي يعيشها العالم، وموجات الركود التضخمي، التي بدأت تضرب الأسواق بعنف، وأول نتائجها سيكون تقليل الاستهلاك والاتجاه نحو السلع والمنتجات رخيصة الثمن، حتى وإن كانت أقل في الجودة.
من وجهة نظري دائماً أرى المشكلة والأزمة الاقتصادية الراهنة ليست مجرد ارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم التي فاقت الحدود، لكنها تكمن في الركود التضخمي الذي ينتظر الاقتصاد، نتيجة ارتفاع تكلفة المنتجات، وعدم قدرة المستهلك على الاستمرار في نفس معدلات وأنماط الشراء، التي كان يتبعها طيلة سنوات مضت، وتغيرت نتيجة عدم وجود السيولة الكافية، الأمر الذي تتراجع معه معدلات النمو الاقتصادي بصورة واضحة، ويفقد الآلاف وظائفهم، ومن هنا تبدأ المشكلة، فالبطالة هي الخطر الحقيقي الذي يحاصر العالم في هذه الفترة، خاصة أن الشركات ستتجه إلى تسريح المزيد من العمالة، وتقليص أنشطة التوسع لفترة لحين عودة الأمور إلى نصابها واستقرار مؤشرات الاقتصاد العالمي.
الشركات متعددة الجنسيات سوف تدعم بقائها في كل دول العالم، من خلال العروض الترويجية والتسويق غير النمطي، والوصول إلى مختلف شرائح المستهلكين، وأكبر دليل على هذا التوجه ما ذكرته في السطور الأولى من هذا المقال وتجربتي مع شركة المياه الغازية، التي بدأت تتجاوز التجار والوصول إلى المستهلك في عقر داره، لكن المتضرر الحقيقي في هذه النظرية هو صاحب "الكشك الصغير"، الذي يعول 4 أسر، والبقال البسيط، الذي يوظف 3 عمال في ورديات مختلفة، مع العلم أن المستهلك سوف يبحث في الفترة المقبلة عن أي مكان يقدم تخفيضات بصورة أفضل، ولن يُظهر ولاء لأحد إلا من يقدم أسعار مخفضة وجودة معقولة، وهنا يظهر بشكل واضح سقوط نظرية الولاء للعلامة التجارية أو الولاء لسلاسل تجارية بعينها خلال التسوق، فالمستهلك قطعاً سيتجه إلى من يقدم عروض أفضل، وهذا التحول أظن أنه سيشمل أغلب السلع، حتى المعمرة منها، مادامت الأسعار في مستويات غير مستقرة، وتواجه خلال واضح بين مستويات العرض والطلب.
الدرس المستفاد أن الفترة المقبلة يجب أن تتحرك الحلقات الوسيطة في سلسلة الاستهلاك نحو تقديم عروض وتسويق المنتجات بهوامش ربح قليلة ومعقولة، من أجل الحفاظ على زبائنها والاستمرار في نفس معدلات التوزيع، فالشركات الكبرى ستجد في الأزمة الاقتصادية الراهنة فرصة لتبتلع وحدها الأسواق والسيطرة عليها.