قرر الشاب المصرى محمد صدقى، أن يقود طائرة صغيرة من برلين عاصمة ألمانيا، إلى القاهرة عاصمة مصر، فاستقبل المصريون الخبر بحماس بالغ، باعتبار أن صاحبه سيكون أول طيار مصرى، ووصل الحماس إلى درجة تشكيل اللجان لمتابعة الحدث، وجميع التبرعات للاحتفاء بالبطل، حسبما يذكر الكاتب الروائى يحى حقى، فى كتابه «صفحات من تاريخ مصر»، مشيرا إلى أن قرار «صدقى» بقيادة الطائرة الصغيرة من برلين إلى القاهرة كان فى ديسمبر 1929، مضيفا: «إذا كانت المسافة هى فركة كعب الآن، فإنها كانت مهولة فى ذلك الوقت».
يذكر عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الثانى من كتابه «فى أعقاب الثورة المصرية، ثورة 1919»، أن محمد صدقى أتم دراسة فن الطيران فى ألمانيا، واعتزم العودة إلى مصر على متن طائرته، وكان شابا مملوءا إقداما وشجاعة، فما إن علم المصريون أنه اعتزم القيام بهذه الرحلة الجريئة، حتى خفقت قلوبهم إعجابا بهذا المواطن، وكانت رحلته الجوية محفوفة بالمكاره والمخاطر إذ تمت فى أشد شهور السنة بردا».
يرصد «حقى» حالة الترقب والفرح العام، منذ إعلان الخبر، يذكر: «تألفت فى نادى التجارة العليا، لجنة استقبال الطيار المصرى، ووجه سكرتيرها عبدالحليم محمود نداء فى الصحف يوم 11 ديسمبر 1929، جاء فيه: اليوم تفخر مصر بقادم عزيز من أبنائها يجوب متن الهواء قاصدا إلى كنانتها، أجل إنه الطيار محمد أفندى صدقى، الذى تسجل مصر ذكره الخالد فى سجل فخارها، وتسطر مجده فى أعلى منارها، لأنه أول طيار مصرى يقوم بهذه الرحلة التى تعلى سمعة مصر بأسرها، وترفع رأس الشرق بأكمله، وجدير بكم أيها المواطنون الأعزاء، أن يكون استقبالكم لهذا القادم العزيز عليكم استقبالا تشهد مصر جلاله، ويظهر الإخلاص بهجته وجماله ، إن مصر العريقة فى مجدها لهى أجدر بأن تعرف المجد لبانيه وتحفظ الفضل لذويه، إن العالم بأسره يرتقب من بعيد ومن قريب ما يظهره المصريون نحو المصرى الذى رفع فى سمع التاريخ لواءهم وأعلى فى ذرا العظمة بناءهم».
يؤكد «حقى» أن الحركة دبت بعد هذا النداء، ويذكر: «كتب قسم الطيران بوزارة المواصلات إلى مصلحة التلغرافات طالبا منها مخابرة البواخر التى تسير فى البحر المتوسط لمساعدة الطيار عند الحاجة ومراقبة طائرته، وكتبت إلى مصلحة الحدود ومصلحة الجمارك لتسهيل السبيل له، واقترحت بعض الصحف تكليف وزارة الخارجية لوزرائنا المفوضين وقناصلنا فى الخارج بالسعى لدى الحكومات لتقديم المساعدات والتسهيلات إلى الطيار المصرى، وتألفت لجنة من طلاب المدارس والأزهر الشريف لإقامة حفل تكريم للطيار، وتألفت لجنة فى الإسكندرية وجهت الدعوة إلى قضاة المحاكم الأهلية والمختلطة والشرعية ووكلاء النيابة، والأطباء والمهندسين والموظفين الملكيين من الدرجة الرابعة فما فوق ورجال الصحافة للمساهمة فى الترحيب بالطيار المصرى».
فى 14 ديسمبر 1929 بدأ «صدقى» رحلته بالطائرة، ويذكر «حقى» أن الصحف أعلنت بدء الاكتتاب فى حفلات التكريم، ووعدت بنشر أسماء المشتركين، ونشرت يوم 18 ديسمبر أسماء المتبرعين، ومنذ انطلاقه تابعت الصحف المصرية الرحلة، وسوء الأحوال الجوية التى قابلتها، ما اضطر «صدقى» إلى أن تأجيل طيرانه من مدينة أوروبية إلى أخرى، وتسبب سوء الأحوال إلى تأجيل وصوله إلى مصر، وكان متوقعا أن يكون يوم الخميس 19 ديسمبر 1929، وكان مقررا بعد وصوله أن يمكث فى القاهرة أسبوعا ثم يغادرها إلى الإسكندرية، ومنها إلى بنى غازى وتونس والجزائر وبرشلونة ومرسيليا وليون وباريس وروتردام وبرلين.
ظلت الصحف المصرية مشغولة يوميا بأخبار «صدقى» وظروف رحلته حتى ذكرت صحيفة «كوكب الشرق» يوم 25 يناير، بأنه سيصل إلى مطار هليوبوليس فى الساعة الثالثة من بعد ظهر 26 يناير، مثل هذا اليوم، 1930، ويؤكد «حقى»، أن «كوكب الشرق» ظهرت يوم 26 يناير 1930 وعلى صفحتها الأولى «مانشيت» كبير يعلن: «وصول أول طيار مصرى لأرض مصر – الشعب السكندرى وبهجته، الوزراء يستقبلون اليوم الطيار فى مطار هليوبوليس»، ووفقا للصحيفة فإن صدقى هبط فى الإسكندرية ولم يهبط فى «هليوبوليس».
فى 27 يناير 1930 نشرت الصحف خبر وصول «صدقى» وأن الناس حملوه على الأكتاف وفى أعينهم دموع الفرح، وكتب الشعراء قصائدهم تحية له، قال خليل مطران قصيدة مطلعها : «عائدا برعاية الرحمن/ النيل راض عنك والهرمان»، وكتب أمير الشعراء أحمد شوقى: «أعقاب فى عنان الجو لاح /أم سحاب فر من هوج الرياح»، وكتب عبدالغنى حسن: «تخذ السماء إلى علاه مطارا/ ورمى بأجواز الفضاء وطارا» .
يفسر «حقى» كل هذا الحماس فى استقبال أول طيار مصرى بأنه «لهفة متقدة فى قلوب أهل الشرق على إبطال استعلاء الغرب عليهم».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة