- هذا سر الرسالة الغامضة التى بعث بها هيكل إلى بيكار «إيه يا بيكار اللى عاملينه فيك ده؟ اجمد ولا يهمك».. وصور بيكار تكشف ما كان يتمتع به من تقدير كل من شيخ الأزهر وبابا الإسكندرية اللذين حضرا معرضا فنيا له برغم انتمائه للبهائية
-الرئيس السادات كرمه ومنحه وسام الطبقة الأولى كما حصل على جائزة الرئيس عبدالناصر وجائزة مبارك.. وكارت معايدة يكشف «ماما نعم الباز» كانت تناديه «ولدى الغالى» رغم أنه كان أكبر منها سنا.. وجاذبية صدقى: شكرا لأنك تسعدنا
«حضرات الأحباء والأصدقاء والأساتذة الأجلاء» فى هذه اللحظة التارخية التى لا أجد العبارات التى تليق لتوصف به، لا أملك سوى أن الاعتراف العميق أنه ما من فنان فوق أرض مصر كرم هذا التكريم، أو دلل هذا التدليل مثل ما كرم به شخصى المتواضع عبر تاريخى الطويل، ولذا أجد نفسى محرجا غاية الحرج وأنا أسطر هذه المقدمة الساذجة معبرًا عما تفضل به تراب مصر لهذا الإنسان الذى يكن كل الحب لكل ذرة من ذراته».. بتلك الكلمات المشبعة بالعرفان والمحبة، خط حسين بيكار مقدمة كلمته التى كان ينوى إلقاءها فى الحفل الذى يحصل فيه على جائزة «مبارك للفنون» قبل أن يتم تغيير اسمها بعد ثورة يناير لتصبح باسم «جائزة النيل»، ومن الواضح هنا أن بيكار كان محاطا بالحب والرعاية والتقدير من الجميع بداية من أصغر طفل فى الوطن العربى وحتى الرؤساء والحكام والملوك، وليس أدل على هذا من تطويقه الدائم بالجوائز والتقدير فى كل مناسبة، والإشارة إليه بالإعجاب والعرفان من كل يد.
نظرة واحدة فى سجل حياته الحافل الذى دونه بخط يده ستخبرك بلا شك بأن على حد قوله شبع من «التدليل» فقد حصل على ميدالية الشرف الذهبية من المعرض الزراعى الصناعى 1949، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى 1967، وجائزة جمال عبدالناصر عام 1975، ونال شهادة تقديرية فى الفنون 1978، وجائزة الدولة التقديرية مع وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى 1980، جائزة مبارك للفنون عام 2000، كما حصل على وسام الاعتزاز من المغرب 1942، وحصل على براءة التقدير من وزارة الثقافة السورية فى زمن الوحدة مع سوريا.
ورغم تعدد هذه التقديرات وأهميتها لكن التقدير الأكبر لـ بيكار كان فى ذلك الحب الذى غمره به الجميع حتى فاض، والذى كان نتاجا طبيعيا لما كان يفيض به بيكار من حب على الجميع أيضًا، وفى الحقيقة فإنى حينما أمسكت أوراق بيكار الشخصية وكتاباته الخاصة ورسائله غمرنى ما رأيت من محبة وتقدير أحيط بها هذا الرجل، وفى حوار مسجل للكاتبة نعم الباز مع زوجة بيكار الراحلة السيدة «أسما» فإن كان يشع نورًا أينما حل، وكان من أمهر الناس فى عقد الصداقات مع كل الناس أيا كان لونهم أو دينهم أو جنسياتهم، وهنا سوف نستعرض بعض هذا الحب وبعض أسرار هذه العلاقات المتشعبة الكبيرة بين رموز عصره وكبارهم، فقد كان بيكار كبيرًا وسط الكبار، ولهذا كان من الطبيعى أن يحاط بكل هذا الحب والتقدير.
سأبدأ هنا بما كتبه بيكار بخط يده عن علاقته بالتوأمان «على أمين ومصطفى أمين»، وعلى حد تعبير بيكار فقد كان يعد نفسه التوأم الثالث لهما، بل يصف لقاءه بهما بطريقة شبه أسطورية، رابطًا بين أحداث تاريخية كبيرة وظروف كونية موحية وميلادهم فى سنتين متتاليتين، فيقول: فى الوقت الذى كان فيه الرائد الكبير مصطفى أمين يضع اللمسات الأخيرة لجريدة أخبار اليوم فى الطابق الأخير والعلوى من مبنى التأمينات القريب من ميدان مصطفى كامل كنت أقف ملاصقًا له نتناقش فى شكل الجريدة من حيث الشكل والمضمون وما أن انتهى حديثى معه حتى قال بلهجة واثقة «أنت من الآن واحدا من العاملين فى أخبار اليوم، وودعته دون أن نتعرض لمرتب أو مكافأة أو أى مقابل لهذا النشاط الجديد».
ويمضى بيكار فى سرد تفاصيل هذه العلاقة قائلا: واستمر نشاطى بنفس الجدية فى كل من عملى كأستاذ بكلية الفنون الجميلة الموازى لعملى فى جريدة أخبار اليوم، وبعد مرور ما يقرب من ثلاثين عاما دعانى الأستاذ مصطفى وعرض على بلهجة فى غاية الجدية أريدك أن تستقيل من منصبك بكلية الفنون الجميلة وتتفرغ لنا بالكامل، ولم أستطع المقاومة واستقلت رسميًا من عملى بالكلية، وتفرغت للعمل كمراسل سياحى لجريدة آخر ساعة، لم أندم على هذه القفزة المفاجئة التى أضافت إلىّ خبرة جديدة، وأضافت لآخر ساعة لونا جديدا نتفاخر به بين جميع المجلات ولم نحسم الموقف بخصوص الجانب التعويضى بالنسبة لى ولمجلة آخر ساعة وجريدة الأخبار الأسبوعية.
وعلى ما يبدو فإن عمله فى أخبار اليوم وتركه العمل كرئيس قسم التصوير فى كلية الفنون الجميلة كان يشغل باله كثيرًا، فكتب فى ورقة أخرى «يوم قدمت استقالتى من رئاسة قسم التصوير بكلية الفنون الجميلة لأتفرغ للعمل بأخبار اليوم اجتمع أساتذة الكلية وراحوا يتهامسون «يا خسارة الأستاذ بيكار نزل للصحافة» أساتذة أكبر كلية لتعليم الفن اعتبروا العمل بالصحافة إسفافا وتحقيرا لقدسية الفن، ولهم كل الحق لأنهم لم يتذوقوا ولو لمرة واحدة قيمة العلاقة العميقة بين القارئ وبين كمية الورق التى يتصفحها كل يوم أو كل أسبوع، وأنها ليست مثل وجبة الصباح تنتهى بانتهاء فنجان الشاى أو السندوتش، وإنما هى متابعة الجريدة أو المجلة صفحة صفحة، ومعايشة محتواها مادة وإخراجا وجددت نوعا من التواصل الروحى والمعنوى بين القارئ وصفحة الجريدة المطبوعة التى تتحول فى لحظة واحدة إلى صديق حميم يبدأ معه حوارا لا ينقطع بل قد يمتد ليصبح موضوع اليوم والساعة وينصهر ليصبح رأيا عاما.
هذه كانت علاقته بأشهر توأمين فى تاريخ الصحافة العربية، اللذان أسسا صرحا صحفيا يعد الآن من مفاخرنا الوطنية، وبرغم هذه العلاقة المتشابكة الوطيدة، احتفظ بيكار بعلاقة متينة بالأستاذ محمد حسنين هيكل المؤسس الثانى للأهرام، ونستدل على هذه العلاقة من خلال رسالة بعث بها «هيكل» إلى بيكار على ظهر صورة جمعت الاثنين، فيقول هيكل وهما يحتضنان بعضهما البعض، ويقول متن الرسالة «التليغرافية» من هيكل «إيه يا بيكار اللى عاملينه فيك ده؟ اجمد ولا يهمك»، ولا يزيد الأستاذ عن هذه الكلمة القصيرة المقتضبة ولا يخبرنا بأية تفاصيل عن تلك الأزمة التى يتعرض لها بيكار ويؤازره فيها، وهو الأمر الذى يتركنا فى حيرة من أمرنا، لكن بفضل التاريخ الذى كتبه هيكل أعلى الصورة نرجح أن سبب إرسال هذه الرسالة هى الأزمة التى تعرض لها بيكار فى العام 1985 وفى هذه الأزمة تقول الكاتبة لوتس عبدالكريم فى مقال لها بالمصرى اليوم «وقد اقتيد إلى السجن سنة 1985 ميلادية بتهمة الرشوة، حيث قيل وقتذاك إنه رشا موظفًا بالسجل المدنى، ليكتب له فى البطاقة الشخصية «بهائى» فى خانة الديانة، ومن المعروف أن الدولة المصرية لا تعترف إلا بالأديان السماوية الثلاث، أما غيرها فلا يكتب فى بطاقة الأحوال الشخصية، وأُفرج عنه فيما بعد، وأذكر وقتها أنه تعرّض إلى حملةٍ تكاد تكون منظمة من السباب والشتائم والانتقادات بسبب عقيدته، أثرت على معارضه والأفلام التى كانت ستُعد عن مسيرته الفنية وهى تستحق باعتبارها أساسيًّا ومؤثرًا فى الحركة التشكيلية المصرية، وقد جاءت رسالة هيكل فى 18 يناير 1986، وهو ما يؤكد أنها كانت فى أعقاب تلك الهجمة الشرسة التى ذكرتها «لوتس عبدالكريم».
كانت تلك الأزمة جديرة بأن تعصف ببيكار وأحلامه ومكانته، لكن لأن ما قدمه بيكار للوطن وما زرعه فى قلوب الجميع من فن وحب أكبر من أى اختلاف، استطاع بيكار أن يعبر هذه العاصفة بكامل محبته، وتشهد مجموعة الصور النادرة التى حصلت عليها على أنه احتفظ بعلاقة وثيقة برموز مصر الدينية، مثل الشيخ محمد سيد طنطاوى الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر، والبابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وليس هذا فحسب بل يبدو من الصور أن كلا من الإمام والبابا كانا يحضران معرضا للفن التشكيلى شارك فيه بيكار تقديرًا لمكانته ومحبته لشخصه.
ولعل من المهم هنا أيضًا أن نستعرض سويًا رسالة من رسائل الأستاذة الصحفية الكبيرة «ماما نعم الباز» إلى بيكار، وذلك لسببين: الأول لأن علاقة الصداقة التى جمعت بين «ماما نعم» ببيكار وزوجته كانت من أشهر العلاقات فى الوسط الصحفى والإعلامى، والثانى لنرى مثالا من أمثلة المحبة الخالصة التى كانت محيطة ببيكار فتقول ماما نعم فى رسالتها:
«ولدى الغالى»
ليست مبالغة أبدًا ما أحسه نحوك فأنت فعلًا ولدى، وكذلك أبلة أسماء الحبيبة.. فيكما طفولة ونقاء وصفاء يجعل كلا منكما طفلا زكيا جميلا مقبلا على كل من حوله، أما عن العطاء فهو أساس فى كل منكما حتى فى الكلام.
ليس لدى ما أقوله سوى أنى عشت هذا العصر الجميل الذى ملأنى بكل قدرات العطاء التى تعلمتها ولكن لم أصل إلى النبع أو الشلال المدعو حسين بيكار.
كل سنة وأنت ابنى وأبى وصديقى، وكل العلاقات الجميلة.
ماما نعم الباز
2 يناير 1998
رسالة أخرى أرسلتها الكاتبة الكبيرة جاذبية صدقى بدون تاريخ:
الأستاذ الفنان العظيم حسين بيكار
لك تحياتى مع خالص تقديرى أن لوحاتك أية من آيات الفن الرفيع أما الشعر الرقيق الذى تكتبه بالعامية شرحا للوحة من لوحاتك - هذا الشعر وهذا الأسلوب وهذا الكلام الذى تقوله بطريقتك الخاصة يمس شغاف القلب ويوقظ الإنسانية فى أعماق كل غافل ويوقظ المشاعر الرفيعة الكامنة بين الحنانيا.
أشكرك لأنك تسعدنا.
جاذبية صدقى
وكما كانت علاقة بيكار بكبار الكتاب والصحفيين على قدر كبير من الحميمة والمتانة، كانت علاقته أيضًا بالفنانين التشكيليين زملائه ورفاق دربه، وهو أيضًا ما نلمحه فيما يكتبه إلى تحية حليم أو صلاح عبدالكريم أو ما يكتبه إليه سعيد الصدر أو حامد ندا، وعلى ما يبدو فقد كان بيكار على اتصال دائم بالجميع، وهو ما دفع الجميع إلى التواصل الدائم معه وإبلاغه بكل جديد، وهو ما نلمحه فى رسالة حزينة من الفنان العالمى الكبير «سعيد الصدر» فيقول له:
الأخ العزيز الأستاذ حسين
سلاما وتحية إليك وكل عام وأنتم بخير وشكرًا جزيلًا على كل ما جاء بمقالكم بتاريخ 1 سبتمبر بالأخبار، وعلى كل ما سبق من مقالاتكم عنى وقد عدت من أستراليا تاركًا معرضى هناك فى مدينة كنبر العاصمة ولى مجموعة أخرى فى مدينة سيدنى ومنذ عام مضى لى مجموعة فى إنجلترا بمدينة لندن، وسوف أتجه قريبًا إلى لندن لعرض آخر، وكم كان بودى أن تكون كل هذه العروض ببلدنا ولكنى بعد أن أخفت وزارة الثقافة مجموعة كبيرة من أحسن إنتاجى فى مخازنها المظلمة حتى لا يراها أحد فى بلدنا لأنها من الممنوعات، رأيت أن أخرج أعمالى إلى جهات يسطع النور عليها ويشع منها ضوء آت من فسطاط مصر.
يا عزيزى حسين
أنا الآن بلغت 72 عاما من العمر ولم يبق لى إلا القليل الذى أفضل أن أستبقيه كله لإخراج عمل قد يكون بمثابة كلمة طيبة من بعدى.
كلماتك يا عزيز تفرحنى وتؤلمنى، كلماتك كلها حق ومن المؤسف أن المسؤولين عن شؤون الفن فى بلدنا لهم من القلوب المرضى ما يكفى لهدم وعرقلة كل جهد فنى أمين ولكن طينتى فى يدى والله معى.
إلى هذه الدرجة كان حسين بيكار قريبًا من الجميع يشتكى له المظلوم ويلجأ إلى حضنه كل غريب، وبخلاف تلك الرسالة الحائرة التى كانت تصل إليه من الجميع، سأعرض هناك رسالتين موجزتين من الفنان الكبير «حامد ندا» والفنان الشاب الذى أصبح كبيرًا فيما بعد «محمد عبلة»، ونفهم من رسالة ندا أن بيكار ربما قد يكون قد توسط له عند الفنان «فاروق حسنى» الذى كان وقتها رئيسًا للأكاديمية المصرية بروما وأقام له معرضا هناك، فيقول ندا:
أستاذ «الكبير أو الكل» حسين بيكار
تحياتى من روما بدفئها القارص الرطب الشاعرى وأمطارها الحقيقية المستمرة، مع تمنياتى لك وللأسرة بدوام الصحة والسعادة والرفاهية.. أخبار المعرض، الافتتاح يوم الخميس الساعة 7 مساء 26 /2/1981 وسوف أوافيكم بالتفاصيل بعد، المهم العرض جميل ومنسق والإضاءة ممتازة وشكرًا للزميل فاروق حسنى وإلى اللقاء.
حامد ندا
أما الفنان «محمد عبلة» فعلى ما يبدو أنه كان دائم الاتصال ببيكار حريصًا على أن يرسل له تفاصيل أسفاره وما يحققه من نجاحات، فبعث له «كارت بوستال» ليقول: أستاذنا الفنان بيكار
أكتب إليك من باريس وأنا فى طريقى إلى ألمانيا بعد أسبوعين فى باريس ذاهبًا إلى ألمانيا سعيًا وراء ذلك الشىء الذى يشدنى لمزيد من الترحال، كتبت لك من إسبانيا فى بداية رحلتى وهأنا بعد قرابة الثلاثة أشهر أكتب
مع حبى
محمد عبلة
بالإضافة إلى هذه الرسالة الحميمية المتصلة التى عثرت عليها فى «تراث بيكار» هناك عشرات الرسائل الأخرى التى تفيض محبة وترسم صورة حية لهذا الرجل الذى التف حوله الجميع، منها مثلا رسائل من الفنان السورى غازى الخالدى والفنان السورى شريف أورفلى والفنان المصرى منير فهيم، بالإضافة إلى بعض مسودات رسائل بيكار إلى آخرين، من رؤساء الدول والوزراء والكتاب والفنانين إلى القراء والأطفال، وهو الأمر الذى يخبرنا بلا شك بأن بيكار كان متصلًا بالجميع محبًا للجميع متلقيًا ما يستحقه من محبة واحتفاء.
نكمل غدا