كانت الساعة الثالثة والنصف عصر مثل هذا اليوم، 6 يناير 1946، حين انطلقت جنازة أمين عثمان وزير المالية فى حكومة حزب الوفد، 4 فبراير 1942- 8 أكتوبر 1944، الذى اغتيل يوم 5 يناير بثلاث رصاصات، وهو فى طريقه إلى نادى فيكتوريا القديم، وفشلت كل محاولات إسعافه بعد نقله إلى المستشفى الإنجليزى الأمريكى، وتوفى فى الساعة الرابعة صباح 6 يناير، حسبما يذكر الكاتب الصحفى لطفى عثمان فى كتابه «المحاكمة الكبرى فى قضية الاغتيالات السياسية».
يذكر لطفى عثمان، أن القتيل كان فى طريقه إلى نادى الرابطة المصرية البريطانية التى يرأسها، وبرز شخص كان مترصدا له بالقرب من الباب الخارجى للعمارة، وأطلق النار عليه فسقط يتضرج فى دمه، ثم خرج القاتل وسار فى الشارع ويداه فى جيوبه، ولم يلبث أن شعر بالناس يتجهون نحوه فأسرع الخطى قليلا، ثم أخذ يعدو متجها نحو ميدان الأوبرا، وشهر مسدسه فى يمينه وظل يطلقه هنا وهناك، وأوشك مطاردوه أن يلحقوا به، فألقى عليهم قنبلة يدوية فانفجرت وأصابت شظاياها بعضهم، مما أجبر الباقين على عدم تعقبه، وهكذا اختفى القاتل، ولم يستغرق كل هذا القتل والمطاردة وإلقاء القنبلة أكثر من عشر دقائق.
يذكر اللورد كيلرن، المندوب السامى البريطانى، فى الجزء الثانى من مذكراته، عن حضوره المستشفى ومحاولات إنقاذ «عثمان » ومشاركته فى الجنازة، قائلا: «كان من الصعب علينا أن نشق طريقنا وسط هذا الموج الهائل من البشر، إذ كان ما يزيد على مائة ألف فى الشوارع «هكذا تقديره »، وعندما عدت إلى السفارة وجدت هيكل باشا رئيس مجلس الشيوخ وحسين سرى، وقد حاولا الإفلات من هذا الزحام الشديد، وقال سرى إنه من المحتمل أن يكون هيكل هو الضحية التالية الذى حل عليه الدور، وأكد سرى بنفسه أنه يوجد بوزارة الداخلية قائمة بأسماء الشباب الذين آلوا على أنفسهم القيام بهذه المهام ».
من هم هؤلاء الشباب؟ ولماذا أمين عثمان؟.. يجيب محمد إبراهيم كامل وزير خارجية مصر المستقيل، احتجاجا على توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل والمتهم فى هذه القضية، قائلا فى مذكراته «السلام الضائع »: «كان أمين عثمان معروفا بصلاته الوثيقة والمريبة بالإنجليز، وكان كثيرا ما يدلى بخطب وتصريحات تمثل استفزازا صارخا لمشاعر المصريين، ومنها خطبته الشهيرة التى قال فيها: «إن إنجلترا متزوجة بمصر زواجا كاثوليكيا لا طلاق فيه »، كما كان شائعا أنه الرأس المدبر لحادث 4 فبراير 1942».
بعد الحادث، أعلنت الحكومة مكافأة خمسة آلاف جنيه لمن يدلى بمعلومات عن الجانى، ويؤكد كامل أن الصدفة هى التى قادت إلى التوصل للمتهم، وهو حسين توفيق «ابن خالة كامل »، حيث كان والده توفيق باشا أحمد وكيلا لوزارة المواصلات، وكان مشهورا بالشدة والصرامة، وحدث أن طرد أحد موظفى وزارته لسوء سلوكه واسمه عبدالعزيز الشافعى أفندى، وكان هذا الموظف يعرف حسين بصفته ابن رئيسه، ويعرف عنه عداوته وكراهيته الشديدة للإنجليز، وانضم هذا الموظف إلى الرابطة المصرية البريطانية، أملا فى الوصول، وشاءت الظروف أن يلتقى حسين قبل الحادث بأيام واقفا أمام مقر الرابطة بشارع عدلى، حيث كان يدرس مكان العملية، فحياه هذا الموظف وتبادل معه حديثا قصيرا انصرف بعده حسين، وفور الإعلان عن مكافأة الخمسة آلاف جنيه، توجه الموظف إلى البوليس وأبلغ أن القاتل هو حسين توفيق، فتوجه ضباط الأمن السياسى إلى الفيلا، التى يقيم فيها بضاحية هليوبوليس فى الساعة التاسعة والنصف، أى بعد الحادث بثلاث ساعات ونصف الساعة، وكانت الأسرة تجلس على مائدة العشاء، وبالتفتيش، عثر البوليس على أسلحة مخبأة ومفكرة يوميات تحتوى على عبارات عدائية ضد الإنجليز وأعوانهم، وعنوان الرابطة المصرية البريطانية.
ألقى البوليس القبض على حسين وشقيقه سعيد، ويذكر لطفى عثمان، أنهما أنكرا أمام النيابة فى تلك الليلة ارتكابهما الجريمة، وتواصلت التحقيقات حتى اعترف حسين بأنه قتل أمين عثمان لأسباب وطنية، وكشف عن أنه كون جماعة سرية لاغتيال الزعماء المصريين المتعاونين مع الإنجليز، ويؤكد لطفى عثمان، أن عدد أعضاء الجمعية المتهمين فى القضية بلغ 26 شخصا، بينهم أنور السادات وكان أكبرهم سنا 27 سنة، ومحمد إبراهيم كامل وكان يناهز العشرين عاما ويدرس الحقوق، وتراوحت أعمار الباقين بين 16 عاما و24 عاما، وجميعهم كانوا طلابا فى المدارس الثانوية والجامعة باستثناء عمر حسين أبوعلى، 24 عاما، المدرس بمدرسة الأمير عمر طوسون الابتدائية الأهلية بشبرا، وأنور فائق جرجس، 22 عاما، تاجر فى أجهزة الراديو ويقوم بإصلاحها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة