تمر، اليوم، الذكرى الـ11 لرحيل الكاتب الكبير إبراهيم أصلان، الذى رحل فى 7 يناير من سنة 2012، مخلفا ورائه إبداعا دالا على طريقة متفردة فى السرد العربى.
ولد إبراهيم أصلان فى 3 مارس 1935 بمدينة طنطا، محافظة الغربية، ثم انتقلت أسرته إلى القاهرة، وتحديدا فى حى إمبابة والكيت كات، وقد ظل لهذين المكانين الحضور الأكبر والطاغى فى كل أعمال الكاتب بداية من مجموعته القصصية الأولى بحيرة المساء مرورا بعمله وروايته الأشهر مالك الحزين، وحتى كتابه حكايات فضل الله عثمان وروايته عصافير النيل.
لم يحقق إبراهيم أصلان تعليما منتظما منذ الصغر، فقد التحق بالكتاب، ثم تنقل بين عدة مدارس حتى استقر فى مدرسة لتعليم فنون السجاد لكنه تركها إلى الدراسة بمدرسة صناعية. التحق إبراهيم أصلان فى بداية حياته بهيئة البريد وعمل لفترة كبوسطجى ثم فى أحد المكاتب المخصصة للبريد وهى التجربة التى ألهمته مجموعته القصصية وردية ليل.
إبراهيم أصلان والبريد يكمل كل منهما الآخر فمنذ أن تدخل العالم الروائى للكاتب الكبير وترى "البريد" بتفاصيلة الدقيقة يسيطر على عالم كتاباته.
وردية ليل
فى "وردية ليل" يبدو "سليمان" موظف البريد هو قاسمها المشترك من حيث الشخوص، وهو الذى تنعقد حوله أحداث السرد، فى مكان عمله بهيئة البريد، لتحتل صالة الاستقبال بمصلحة البريد المساحة العظمى من ساحات القص فتكون هى القاسم المشترك المكانى الذى تدور فيه حركة الحدث، وبالمثل يكون الليل هو الزمن الذى تجرى فيه معظم الأحداث، وتدور الأحداث حول مجموعة من البشر يؤدون مهام عملهم الليلى.
صديق قديم
فى هذه الرواية التى نشرت بعد موت إبراهيم أصلان يطاردك سؤالان، الأول من هو الصديق القديم جدا الذى تقصده الرواية، وتجعل التفكير فيه والبحث فى حياته عنوانها؟، الصديق القديم فى رواية إبراهيم أصلان لن يمنحك نفسه بهدوء ولا يكشف عن ذاته ببطء، بل يأخذك فى رحلة يتركك فى نهايتها غير متأكد تماما، ففكرة "الصديق القديم جدا" تتطور معك على طول مفهوم الرواية، يبدأ من "توفيق" ويظل خياله يطاردك فى أنه المقصود، خاصة أن الرواية وصفته تقريبا بهذه الصفة أكثر من مرة، لكن بعد وقت آخر من القراءة ستظهر شخصيات أخرى هى أيضا "أصدقاء قدامى جدا" فشخصية "جونيور" لا تقل أثرا ووجودا عن "توفيق" كما أن "سليمان الشاعر" بكل الذى كان يمثله للراوى وللتغير الشديد الذى أصابه يستحق أن يكون المقصود بهذه الصفة، كل هذا وجهة نظر، لكن الصديق القديم جدا هو "الراوى/عبد الله" نفسه، الذى منحته فرصة موت صديق قديم، أن يبحث داخل ذاته عن نفسه وعن قناعاته السابقة واختياراته، ويقارنها بحاله الآن ليجد أنه أصبح مختلفا لا علاقة تقريبا بين "العجوز" الذى هو عليه والشاب الذى كانه يوما، حينها يتأكد أنه كان لنفسه صديقا قديما جدا. السؤال الثانى، وهو سؤال دائم كان يطارد "إبراهيم أصلان"، هل يكتب أصلان ما يعرفه، وما مر به فى حياته ثم يضعه فى بوتقة من الخيال؟، يظل الأدب العظيم هو ما يُدخلك فى هذه الربكة الفنية الجميلة، وذلك بأن يضعك فى موضع الصدق عندما يريد ثم يأخذك إلى طاقات الخيال وقتما يحب، هناك مؤشرات قوية على حقيقة الحكاية فـ"البريد" بكل ما فيه يعرفه إبراهيم أصلان عن ظهر قلب، وإمبابة بكل روحها تحفظ إبراهيم أصلان ويحفظها، كما أنه لم يضع خوارق فى الحكايات، حتى أن الكلام عن علاقاته بالنساء كانت متحفظة كما هو متوقع من كاتب يصيغ سيرته الذاتية ويخشى أن يقرأها أحد، فهى حكاية ممتلئة بالتأمل والحياة وليست بالبهرجة، لكن هذا لا يعنى أنها سيرة ذاتية لإبراهيم أصلان، فقد اختلط لديه الحقيقى بالخيالى، وخرجت رواية تحكى عن زمن جميل وأماكن أجمل، فقط لأنه رآها كذلك.
إذن فقد شغل إبراهيم أصلان نفسه بالبحث عن الجمالى، فى كتابة هذه الرواية، وأرقه أن ننقطع عن ماضينا تماما حتى فى الشكل الخارجى لنا، ورفض أن تتحول وسامتنا إلى قبح بين وتجاعيد وانحناء ظهر، وأن تنطفئ أرواحنا فجأة، وأن نموت ونحن سائرون فى الطريق، وأن نفزع ونفقد أرواحنا وعقولنا لأننا رأينا ذئبا يقف لنا بالمرصاد، وأن نرى بنتا بعينين جريئتين ولا نحبها، وأن نسمح لحياة رديئة بأن تأكل منا أصدقائنا وتدخلنا فى متاهات تكون العودة منها مستحيلة، ستدفعك هذه الرواية لأن تلم شتات نفسك وتبحث عن أصدقائك القدامى، وقبلهم عنك أنت وتتأمل التغيرات التى حدثت مثل شروخ فى روحك ربما تحاول أن ترمم تصدعاتها. الرواية بحث عن الذات، عن زمن جميل وعمر ضاع فجأة وأماكن شاخت وعلاقات تفسخت تماما، إنها استحضار لكل جميل حتى إن كان فى وقته غير ذلك.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة