كان أنس يلعب مع جيرانه صبيحة الإثنين 2 أكتوبر، لم يكن يعلم هذا الطفل الذى لم يتخط عمره الـ9 سنوات، أن هذه ستكون آخر مرة يلعب فيها مع جيرانه، لأنه بعد 5 أيام فقط سيكون قطاع غزة، حيث تسكن أسرته إحدى ضواحيها، تحول لمدينة أشباح، تفوح فيه رائحة الموت من كل مكان، لأنه بعد تنفيذ المقاومة عملية "طوفان الأقصى"، ستبدأ قوات الاحتلال تنفيذ ما أسمته "السيوف الحديدية"، وهو العدوان الأبشع فى تاريخ الاحتلال ضد هذا القطاع، ويفقد فيه أنس والده ووالدته و3 من أشقائه، ويظل هو الناجى الوحيد، ليعيش مع بعض جيرانه الذين نزحوا إلى إحدى المدارس بعد أن تهدم منزلهم بفعل القصف الإسرائيلي.
لم يكن يعلم أنس أن جيرانه الأطفال الذين كان يلعب معهم ستكون هذه المرة الأخيرة التى يشاهدهم فيها، لأن غالبيتهم استشهد خلال القصف، لم يودع الشارع الذى كان يلعب فيه كرة القدم، لم يكن يعلم أن هذا الشارع سيتحول لكومة من الحطام الناتج عن دمار المبانى السكنية التى قصفها الاحتلال، لم يستوعب هذا الطفل الصغير مشهد الأشلاء سواء من أسرته أو بعض أفراد عائلته أو جيرانه، فبعد دمار منزل أسرته، يستطيع بعض الأهالى انتشال أنس الذى ظل حيا، ويخرج والده وأحد أشقائه مصابين بفعل القصف، وباقى أفراد الأسرة استشهدوا، لا يعلم أنس هل يذهب إلى المشرحة التى يوجد فيها والدته وشقيقاه، أم يذهب مع والده وشقيقه المصابين، فقرر أن يودع والدته وشقيقيه بنظرة أخيرة، ولكن عندما يعود للمستشفى ينزل الخبر عليه كالصاعقة بأن والده وشقيقه استشهدا متأثرين بإصابتهما، فيبكى أنس كثيرا لأنه لم يستطع أن يودعهما ويلقى عليهما النظرة الأخيرة قبل الوفاة أو يتحدث معهما، ثم يقول جملة جعلت كل من حوله يجهشون بالبكاء "فقد كل شيء فى هذه الحياة.. لمن سأعيش بعدكم".
قصة أنس هى واحدة من آلاف القصص المؤلمة للأسر فى غزة، فهناك عائلات مسحت من السجلات المدنية بقطاع غزة، بل إنه بحسب تصريح صادر من الدكتور أشرف قدرة المتحدث باسم وزارة الصحة فى غزة 15 أكتوبر الجارى، فإن هناك 55 عائلة فلسطينية أبيدت بالكامل فى الغارات الإسرائيلية، تلك المدينة التى لا تتعدى مساحتها 365 كيلو متر مربع، ويسكن فيها ما يتجاوز الـ2 مليون و400 ألف نسمة، والذى جعلها أكبر منطقة بها كثافة سكانية فى العالم، تدك فى كل شبر من أراضيها، فلن تجد شارع إلا وبه دمار وهدم لمبانى ومؤسسات وأشلاء متناثرة فى كل مكان، فى ظل احتلال لا يتورع فى استهداف المدنيين العزل، ويقصف مبانى سكنية دون سابق إنذار، بل أيضا مستشفيات كما حدث فى استهداف مستشفى المعمدانى فى 17 أكتوبر الجاري، واستهداف محيط مستشفى القدس، الخميس 19 أكتوبر، وقبلها محيط مستشفى الأوروبى الأربعاء الماضى 18 أكتوبر، ثم بعدها استهداف محيط مستشفى ناصر فى خان يونس فى يوم الجمعة 20 أكتوبر، وكذلك استهداف دور العابدة ككنيسة الروم الأرثوذكس الجمعة 20 أكتوبر، وغيرها من المنشآت الصحية ودور العبادة التى راح ضحيتها آلاف الشهداء وأعداد ضخمة من الجرحى.
بحكم تغطيتى للعدوان الإسرائيلى الأخير على غزة، وتواصلت مع العديد من المصادر والشخصيات السياسية والصحفيين الفلسطينيين، أجد مشاهد غاية فى الصعوبة تدمى القلوب، لا يمكن أن يستوعبها عقل، عزيزى زياد المقيد، الصحفى الفلسطينى المقيم فى غزة، الذى فقد زوجته وأبناءه الأربعة خلال القصف الإسرائيلي، يتحدث معى بكل ثبات وصبر وجلد، تستغرب كيف لشخص يمر بهذه الظروف، فقد حضن الأسرة ودفء العائلة فى لحظة، يتحدث بهذا الثبات ويؤكد أنهم صابرون ولن يتركوا أرضهم، أنظر إلى عائلتى واسأل نفسى ماذا لو كنت مكانه؟ أحاول أن أضع نفسى مكانه للحظات فأجد جسمى قد ارتعش من هول الصدمة، بل فى الحقيقة بحكم متابعتى للأحداث فى غزة، بمجرد النظر إلى صور الشهداء من الأطفال والمدنيين العزل قد لا أستطيع السير على قدمى بعدها وقد لا أنام لليالى بسبب بشاعة المشهد الذى لا يتم فيه كشف صورة الشهداء، فماذا عن من يرون هذه المشاهد بأم أعينهم على أرض الواقع يوميا، وهم لا يعلمون ما إذا كان الدور سيكون عليهم أم لا، فهل ستتحمل ما يتحمله هذا الرجل الذى كان كل ذنبه أنه فلسطينيا يتعرض لحرب وحشية من احتلال لا يحترم إنسانية أو دين أو أعراف أو قوانين، ومجتمع دولى يرفع شعارات زائفة عن حقوق الإنسان وفى الحقيقة يعمى عينه أمام أبشع جرائم ترتكب فى العصر الحديث، زياد الذى لم تمكنه الظروف من رؤيته زوجته وأبنائه قبل استشهادهم، فيكفن أسرته جميعا فى كفن واحد ويلقى عليهم نظرة الوداع الأخيرة، ويدعو الله لهم بأن يتقبلهم شهداء، ثم يعود ليمارس عمله كصحفى يوثق جرائم الاحتلال ميدانيا.
هؤلاء ليسوا بشرا بل جبال تتحمل ما لا يتحمله الإنسان العادي، أنت إذا وقعت أمامك حادثة معينة قد تظل لأياما تعانى من الأرق بسبب تكرار المشهد فى ذهنك، إذا فقد عزيز عليك قد تظل أياما دون نوما تتذكر ذكرياتكما مع بعضكما، ولكن هؤلاء يفقدون الأسرة والعائلة بالكامل، بل وعليهم أن يشاهدوا مناظر القتل والأشلاء يوميا، يسمعون صوت الطائرات المزعج كل دقيقة، بل أحيانا كل بضع ثوانى وهى تقصف صواريخ على الضواحي، لا يعلم أين ستقع القذيفة فهل فى المكان الذى يقطن فيه أم فى مكان بجواره؟ لا يعلم ما إذا كان هو الضحية المقبلة أم لا؟ يشاهد فى وسائل الإعلام أن الإنسان فى قطاع غزة أصبح مجرد عددا يتم إحصائه فى عدد الشهداء أو الجرحى، يفتح التلفاز فى مقر عمله أو فى منزله فيشاهد وزير الدفاع الإسرائيلى يوآف غالانت يصف أهالى غزة بالحيوانات البشرية التى يتم محاربتها، ثم يجد مسؤولون غربيون يبررون الجرائم التى ترتكبها قوات الاحتلال ، يستغرب ويسأل نفسه "هل يرانا الغرب حيوانات؟ حتى الحيوانات يدافعون عن حقوقها؟" ولكن فى الحقيقة أنت أفضل البشر، تتحملون ما لا يتحمله أى إنسان على هذا الكوكب فى سبيل الدفاع عن أرضكم، مستعدون للتضحية بالنفس والعائلة مقابل ألا تتركون أرضكم لاحتلال يمارس كل أنواع الجرائم فى هذا العصر.
قرأت كثيرا عن الجرائم التى ارتكبها هتلر وقواته إبان الحرب العالمية الثانية، سواء فى بدايتها مع غزو بولندا واحتلال أجزاء كبيرة من أراضيها بالتعاون مع قوات ستالين، أو المجازر التى ارتكبها ضد البلجيكيون والهولنديون خلال احتلال البلدين تمهيدا لاحتلال فرنسا، ثم المجازر التى ارتكبها بحق الروس والجيش الأحمر فى معركة بارباروسا، والتى تصنف بأضخم معركة بشرية فى التاريخ من حيث عدد الجيوش المشاركة فيها، وغيرها من المجازر التى ارتكبها هتلر وحلفائه فى البلدان التى اقتحموها فى أوروبا، وكان من بين ضحاياهم اليهود، فى المجزرة التى سموها "الهولوكوست"، ولكن ما الفرق بين الهولوكوست الذى مارسه هتلر ضد اليهود، والهولوكوست الذى تمارسه إسرائيل الآن ضد الشعب الفلسطيني!، فى نهاية الحرب انتحر هتلر، وحاكم الحلفاء قيادات الجيش الألمانى وحكموا على بعضهم بالإعدام نظير الجرائم التى ارتكبوها فى الحرب، ألا يستحق الأمر أيضا محاكمة المجتمع الدولى لقيادات الاحتلال على المجازر التى يرتكبوها ضد أهالى غزة.
وفقا لتقرير تحت عنوان "الحالة فى الأراضى الفلسطينية المحتلة وإسرائيل" نشره الموقع الرسمى لمنظمة الأمم المتحدة يبث تصريحا للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش يؤكد فيها ضرورة ألا تُستهدف منشآت الأمم المتحدة والمستشفيات والمدارس والعيادات، كما أكد كذلك ضرورة السماح بدخول الإمدادات المنقذة للحياة إلى غزة، بما فى ذلك الوقود والماء والغذاء، ويشدد على الحاجة لضمان وصول إمدادات الغوث الإنسانى العاجل بدون عوائق.
بيان صادر من منظمة اليونيسف بتاريخ 13 أكتوبر، أى فى بداية العدوان الإسرائيلي، على موقعها الرسمى تقول فيه " تدعو اليونيسف إلى وقف فورى لإطلاق النار فى الوقت الذى تلقى فيه 1.1 مليون شخص، نصفهم تقريباً من الأطفال، إنذاراً بضرورة الخروج، تمهيداً لما يُتوقع أن يكون هجوم عسكرى واسع النطاق فى أحد أكثر الأماكن اكتظاظاً بالسكان على الأرض، ولقد نفذ الغذاء والماء والكهرباء والأدوية وفُقد الوصول الآمن إلى المستشفيات لدى الأطفال والأسر فى غزة، بعد أيام من القتال ومن قطع جميع طرق الإمداد، فيما تقول المديرة التنفيذية لليونيسف كاثرين راسل فى بيان صادر عنها على الموقع الرسمى للمنظمة بتاريخ 18 أكتوبر، بشأن شهداء وإصابات الأطفال فى المستشفى المعمدانى الأهلي، تتحدث فيه عن هول الفاجعة قائلة " أشعر بالرعب إزاء التقارير التى تفيد باستشهاد وإصابة أطفال ونساء إثر هجوم على المستشفى الأهلى فى قطاع غزة هذا المساء، وبينما لا تزال التفاصيل تتكشف، ولا يزال يجرى إحصاء أعداد القتلى، فإن المشاهد على الأرض مفزعة، وهذا يؤكد الأثر المميت لاستمرار هذه الحرب على الأطفال وأسرهم، ففى غضون 11 يوما فقط، استشهد مئات الأطفال بشكل مأساوى ولا يشمل هذا العدد وفيات اليوم كما جُرح آلاف آخرون، وهُجّر أكثر من 300,000 طفل من منازلهم، والهجمات على المدنيين والبنى التحتية المدنية كالمستشفيات غير مقبولة ويجب أن تتوقف فوراً، وتكرّر اليونيسف نداءها العاجل من أجل الوقف الفورى للأعمال العدائية، وضمان حماية الأطفال من الأذى، وتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية إلى الأطفال المحتاجين بشكل آمن وسريع".
عندما أتحدث عن جَلَد وصبر أهل غزة وأطفالها تجاه تلك المجازر التى ترتكب بحقهم أتذكر أبيات شعر نزار القبانى عن غزة عندما قال:
يا تلاميذ غزة علّمونا.. بعض ما عندكم فنحن نسينا
علمونا بأن نكون رجالاً.. فلدينا الرجال صاروا عجينًا
علمونا كيف الحجارة تغدو .. بين أيدى الأطفال ماسًا ثمينًا
كيف تغدو دراجة الطفل لغمًا.. وشريط الحرير يغدو كمينًا
كيف مصاصة الحليب.. إذا ما اعتقلوها تحولت سكينًا
يا تلاميذ غزة لا تبالوا.. إذاعاتنا ولا تسمعونا
اضربوا اضربوا بكل قواكم.. واحزموا أمركم ولا تسألونا
ليس هذا هو العدوان الأول الذى يمارسه هذا الاحتلال ضد المدنيين فى غزة، ولكن فيه الحقيقة هو أبشعها، فحتى كتابة هذه السطور وصل عدد الشهداء فى غزة منذ بداية عملية طوفان الأقصى فى 7 أكتوبر وحتى الآن إلى 4385 شهيدا، بجانب ارتفاع عدد الجرحى إلى 13561 جريحا وهو العدد الأضخم فى حصيلة الشهداء طوال حروب إسرائيل ضد القطاع، وهو ما يكشف حجم المجازر المرتكبة بحق أهالى غزة، هذا ولم يحدث حتى الآن غزوا بريا، فماذا إذا حدث هذا الغزو!، فالاحتلال يبدو أنه عاقد العزم على إبادة القطاع بالكامل بمن فيه وهو ما يفسر الغارات الوحشية والممارسات الجنونية التى يرتكبها الاحتلال ضد المدنيين، فى محاولة للتغطية على الفشل الذى لاحقه خلال عملية طوفان الأقصى.
ما تحدثنا عنه فى السطور الماضية هو جزء من الجريمة، وفى الحقيقة هناك جزء أخر يتمثل فى الحصار المفروض من قبل الاحتلال على قطاع غزة، ومنع دخول الطعام والمياه والوقود، وقطع الكهرباء عن كل الضواحى، فالاحتلال الذى مارس كل أشكال الجريمة، هو المتحكم الفعلى فى دخول الطعام والشراب والوقود، ويجبر أهل غزة على شراء الطعام منه، فخلال مكالمتى مع المستشار طه الخطيب، وهو محلل سياسى فلسطينى يعيش فى مصر، ولكن لديه 50 فردا من أفراد عائلته يعيشون فى غزة، يحكى لى فظائع ما يرتكبه الاحتلال من تجويع لأهالى القطاع، حيث يؤكد أن افراد عائلته يشترون خبزا لكل فرد ليكفيه طوال اليوم، ولا يوجد مخابز تعمل إلا القليل منها، ويعانون من أجل إطعام الأطفال.
تصريح صدر من المتحدث باسم منظمة الأونروا – وهى وكالة تابعة للأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين - عدنان أبو حسنة بتاريخ 15 أكتوبر، يؤكد أن المنظمة تقدم رغيف خبز واحد على مدار اليوم الواحد، والمخابز غير قادرة بتزويدهم بالخبز، وهناك بعض المدارس التابعة لهم لا يصلها على الإطلاق، ويقول :"نحن فى دوامة كبيرة ولا نعرف ماذا نفعل وأيام قليلة والوقود ينفد ومحطات المياه مدمرة، والمواطنين يشربون مياها ملوثة، و75 % من المياه بالقطاع لا تصلح للشرب ، لتعلن الوكالة الأحد 23 أكتوبر تعليق خدماتها التعليمية والصحية بسبب القصف الإسرائيلى على غزة.
وفى يوم الخميس الماضى 19 أكتوبر، خرج مكتب تنسيق الشئون الإنسانية التابع للأمم المتحدة فى جنيف ليكشف عدد النازحين الفلسطينيين فى قطاع غزة، والذين تركوا منازلهم بسبب القصف، ليؤكد أن عدد النازحين فى غزة حاليا يقدر بمليون شخص من بينهم حوالى 353 ألف شخص يقيمون فى مدارس الأونروا فى وسط وجنوب غزة، فتخيل معى مليون إنسان تم إجبارهم على ترك منازلهم ومغادرة الأحياء التى تربوا وعاشوا فيها لسنوات، وبها ذكرياتهم ولحظاتهم السعيدة، ليذهبون إلى مصير مجهول، أليس هذا جريمة ضد الإنسانية !
أما عن تعطل عمل المستشفيات فى غزة وعدم قدرتها على علاج المرضى، فحدث ولا حرج، فليس الأمر متمثل فى استهداف المستشفيات فقط أو التهديد بضربها، ويوجد بها آلاف النازحين الذين هجروا قسريا من منازلهم بفعل قصف الاحتلال، بل أيضا لا يوجد بها وقود على الإطلاق، ولم يعد لديها أى إمكانيات لاستقبال المصابين، فخلال حديثى مع الدكتور بشار مراد مدير الهلال الأحمر بقطاع غزة يؤكد أنه لا يوجد محروقات بالمستشفيات، وأنهم مضطرون إلى وقف الخدمات الصحية، وكذلك حديث الدكتور محمد أبو سلمية، مدير مستشفى الشفاء فى غزة، الذى يؤكد أن المستشفى أصبح يعالج المرضى فى الممرات حيث لا يوجد أسرة لهم، وأن العمليات الجراحية يتم إجرائها بدون تخدير، وتأكيده بأن أعداد المصابين فى غزة تفوق القدرة الاستيعابية فى المستشفى بضعفين، إذن فعن أى حقوق إنسان يتحدث الغرب! وهل هذا يحدث فى بقعة من بقاع العالم ونحن فى القرن الـ21!
ما أتحدث عنه هى نقطة من بحار نقاط معاناة للشعب الفلسطينى فى غزة، الذى يدك يوميا وترتكب ضده مجازر لم نكن نسمع عنها أو نشاهدها إلا فى أفلام الرعب فقط، بل قد ترى هذه المشاهد فى فيلم وتبكى بحرقة وأنت تعرف أن هذا مجرد تمثيل، ولكن ماذا عندما تعرف أن هذا هو واقع مفروض على هذا القطاع يوميا منذ بداية عملية طوفان الأقصى وهذه المشاهد مستمرة لأكثر من أسبوعين حتى الآن، ولم تتوقف حتى ليوما واحدا، فأصبح المواطن الفلسطينى يحمد الله أنه أصبح حيا أو أمسى حيا ولم تصبه صواريخ طائرات الاحتلال، وحى عندما يصبح حي، يفجع باستشهاد أحد أفراد أسرته أو عائلته، فيتمنى أن يلحق بهم من هول ما يلاقيه من معاناة، أصبح الموت شيء اعتيادى لدى أهالى هذا القطاع، بل الحياه هى الشيء غير المعتاد عليهم، فلم يعد مستغربا أن تسمع أن عائلة بالكامل استشهدت خلال القصف، بل أصبح الغريب هو أن تشاهد أحياء يخرجون من تحت القصف، لم يعد غريبا أن تأكل عائلة مرة واحدة فى اليوم أو أن تعيش فى مدرسة أو مستشفى أو حتى فى الطرقات، ولكن أصبح الغريب فى هذا القطاع أن تجد عائلة تأكل ثلاث مرات يوميا أو ما زالت تعيش فى منزلها مثل باقى البشر فى كافة دول العالم، فأصبح الطبيعى فى هذا العالم مستغربا فى غزة.
الاحتلال يمارس حرب إبادة جماعية ضد أهالى غزة، منتهكا القانون الدولي، الذي وفر حماية عامة وخاصة للمواقع المدنية وفقا لاتفاقية جنيف الرابعة والبروتوكولين الإضافيين الأول والثاني لاتفاقيتي جنيف لعام 1977 ولاهاي لعام 1954، حيث تشمل هذه الحماية المواقع المدنية بما في ذلك المنازل والمدارس والجامعات والمستشفيات ودور العبادة وغيرها من المنشآت المحمية بموجب هذا القانون، كما تحظى المستشفيات بحماية خاصة في اتفاقية جنيف الرابعة؛ إذ لا يجوز بأي حال الهجوم على المستشفيات المدنية التي تقدم الرعاية للجرحى والمرضى والعجائز والنساء، حيث يوجب القانون احترام هذه المستشفيات وحمايتها، وفي عام 1970 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قانون ينص على أن منطقة المستشفى أو أي ملجأ مماثل لا ينبغي أن تكون هدفا للعملية العسكرية.
استهدافه للصحفيين أيضا يعد خرقا للقانون الدولى، حيث إن الصحفيين محميين بقوة القانون الدولى، من خلال قرار رقم 1738 لمجلس الأمن الدولي أكد إدانة الهجمات المتعمدة ضد الصحفيين وموظفي وسائل الإعلام والأفراد المرتبطين بهم أثناء النزاعات المسلحة، بجانب نصه على اعتبار الصحفيين والمراسلين المستقلين مدنيين يجب احترامهم ومعاملتهم بهذه الصفة، ومساواة سلامة وأمن الصحفيين ووسائل الإعلام والأطقم المساعدة في مناطق النزاعات المسلحة بحماية المدنيين هناك، بجانب اعتبار المنشآت والمعدات الخاصة بوسائل الإعلام أعيانا مدنية لا يجوز أن تكون هدفا لأي هجمات أو أعمال انتقامية.
الكثير والكثير من الكلمات والتعبيرات التى لا يمكن أن توصف حجم المأسى فى هذه البقعة الصغيرة من العالم، إلا أنها كشفت لنا الكثير من الحقائق حول ازدواجية هذا المجتمع الدولى الذى تضامن مع الأوكرانيين إبان الصراع بين موسكو وكييف المستمر حتى الآن، ورفعوا أعلامهم وتحدثوا عنهم فى كل المؤتمرات والمحافل الدولية، بينما فيما يتعلق بالجرائم فى غزة فهم يمنعون حتى صوت الحق من أن يتحدث فى مظاهرات بشوارعهم يكشف إجرام الاحتلال، بل ويهددون من يرفع صوته للتضامن مع أهالى غزة بالعقوبات والاستبعاد بل وسحب الجنسية من البعض، ليكون لسان حال سكان قطاع غزة "لقد انتهت كل حلول الأرض والأمر متروك للسماء".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة