كانت أخبار الحرب الروسية الأوكرانية تزعج العالم وتصيب آذانه بالصمم، وتقلق منامه، على مدار عامين كاملين، ليس على الصعيد الميدانى فحسب، ولكن على الصعيد السياسى والدبلوماسى والاقتصادى، وتقوده الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلفها أوروبا، ومحاولة تصدير أن العالم على فوهة حرب نووية عالمية ثالثة تقضى على الأخضر واليابس، بجانب صراع الاستقطاب المخيف وتدشين الكيانات الاقتصادية فى معركة تكسير العظام لـ«العملات» بين الدولار والروبل واليوان والروبية، ومحاولة كل عملة إزاحة الأخرى عن عرش سيطرة الأسواق العالمية.
كانت وسائل الإعلام العالمية لا حديث لها إلا عن أخبار الحرب الروسية الأوكرانية، وقدرات روسيا النووية وتحركات «بوتين» مع ضرورة دعم أوكرانيا بالأسلحة والمال للوقوف فى وجه روسيا، وأن حلف الناتو يقف مرابطا قريبا من الأحداث يراقب الوضع عن كثب، مع محاولة تصنيف الدول ما بين دول داعمة لروسيا، أو الداعمة لأوكرانيا، والجميع صار يتحسس مسدساته خشية أن يتورط باتخاذ قرار برىء خالٍ من كل شوائب القصد والتعمد، فيسدد فاتورته.
ووسط هذا الزخم، تصاعدت الحرب فى السودان بين الجيش السودانى، والدعم السريع، وسيطرت على وسائل الإعلام الأمريكية والغربية، واهتمامات الدول الكبرى والمؤسسات الدولية الرسمية والمعنية بدراسة وإصدار القرارات المتعلقة بالحرب، وعن أعداد الضحايا وحجم الدمار فى البلد الشقيق الباحث أبناؤه عن الأمن والاستقرار، بجانب فرار أعداد كبيرة هروبا من جحيم الحرب المستعرة.
الأمر اللافت، ووسط أحداث الحرب الضروس، سواء الروسية الأوكرانية، أو فى السودان الشقيق، كانت الزلازل حاضرة فى المشهد وضربت بقوة مفرطة عددا كبيرا من دول المنطقة، وكأن الإقليم أيضا استحوذ على الحقوق الحصرية للزلازل والاهتزازات الأرضية العنيفة فى البر والبحر، وراح ضحيتها المئات، وبدأ تصدير القلق الشديد لشعوب الإقليم، وتصريحات خبير هولندى يتنبأ بالزلازل، ومعظم تنبؤاته تحققت، فى تقاطع مع العلم الذى يجزم بأن الزلازل من الصعوبة بمكان تصل لاستحالة توقع حدوث الزلازل وفق لكل النظريات العلمية.
كما أن قضية المناخ وانتشار الأوبئة فى العالم وتحديدا كورونا ومتحوراته، وحتى الحشرات مثل «البق» كانت فى قلب الاهتمام الأوروبى.
وفجأة، وتحديدا يوم 7 أكتوبر الماضى، اختفى كل الاهتمام بالحروب والمشاكل الاقتصادية، والزخم بالمناخ والزلازل، واتجهت الأنظار صوب غزة، وصار هذا التاريخ حدا فاصلا تغيرت فيه كل شىء من النقيض للنقيض، وتعرت فيه المواقف وسقطت أبسط مبادئ العدالة وحقوق الإنسان فى وحل المعايير المزدوجة والكيل بعشرات المكاييل.
وجدنا الدول الكبرى التى كانت تترنم بحقوق الإنسان، وقيم العدل والحرية والديمقراطية، وحولتها إلى سلع تصدرها للدول ليس بهدف الخوف على شعوبها وإنما بهدف ابتزاز هذه الشعوب ومحاولة السيطرة على مقدراتها، صارت داعمة للظلم وتقف ضد الحق والعدل!
أمريكا وأوروبا ومن فى ركابهم تحولوا من النقيض للنقيض فى الاهتمامات والمعايير والموازين، فالحرب الروسية الأوكرانية لها مكيال وميزان مختلف بالكلية عن معايير وموازين ما تتعرض له غزة من حرب إبادة وهمجية.. وما بين رفض حرب روسيا على أوكرانيا باعتبار روسيا معتدية على أراضى الغير، ودعمهم بالسلاح والمال، والعدوان الإسرائيلى على غزة لتصفية القضية الفلسطينية، اندثر الاهتمام بالحرب الروسية الأوكرانية والاقتتال الداخلى السودانى، وما يحدث فى ليبيا، واختفت الزلازل، وانعدم الحديث عن الأوبئة والمناخ!
والسؤال: هل هذا منطقى، وأمر عادى يمكن التسليم به!