أيقنت إسرائيلُ أنها بعيدةٌ من النصر؛ فتقبَّلت الهُدنة التى كانت ترفضها وتُماطل فى مُفاوضاتها، وقد ارتضت «حماس» ترتيباتٍ مرحليّةً أقلّ ممّا كانت تتطلَّع إليه. ولن تكون الأيامُ الأربعة نهايةَ المحنة الدائرة فى غزّة؛ لكنها خطوةٌ على الطريق، لا سيّما أنها قابلةٌ للاستنساخ مُجدّدًا، وأنّ الحروب لا تعود كما كانت بعد جولتها الأولى. أمَّا أهمّ ما فى الاتفاق الأخير فليس الشقّ المُعلن منه؛ إنّما المسكوت عنه من الطرفين والرُّعاة الواقفين خلفهما، وفاعليّة الوساطة بما لديها من أوراق قوّةٍ وتأثير، وديناميكيّة المواقف الدولية التى خصمت من التطرُّف الإسرائيلى، بقدر ما دعمته وكانت تُغذّيه فى بادئ العدوان.
أُبرِمت الصفقةُ بجهدٍ مصرى قطرى. الأخيرةُ لأنها ترعى قادة «حماس» ولديها سُلطةٌ معنويّة عليهم، والأُولى لعلاقتها الوطيدة بالحركة وقنواتها النشطة مع تل أبيب، خصوصًا أنها قدّمت أداءً صلبًا فى مسائل عضويّة تتعارض مع غايات الاحتلال؛ إنْ فى طرد الغزِّيين أو البقاء بالقطاع أو استدعاء قوَّات إقليمية وأُمميّة ضمن ترتيبات اليوم التالى. والمعنى العميق أنّ التشدُّد الأُصولى على الناحيتين لم يعُد الحاكم المُطلق للنزاع، ولا الرُّعاة من الغرب ومحور المُمانعة، وأنّ تطوُّرات الميدان فرضت على القاتل والمُقاوِم أن يُعيدا قراءةَ الموقف، وبرمجة الأهداف، وأن يبحثا عن مسالك آمنةٍ للنزول عن الشجرة، وقد صار واضحًا أن النار تأكل جذورها، ولن يُفرِّق الحريق بين الهارب والمُطارِد.
الورقةُ المُتَّفق عليها لا تنصر طرفًا على آخر. لا بطشَ الاحتلال ساعده فى فرض رُؤيته الإلغائية، ولا ثبات الفصائل وضخامة أسراها مَنَعاها أن تُقدِم على تُنازلات قاسية. خُلاصة الاتفاق أنه قدَّم الحدَّ الأدنى من شُروط الطرفين، وخصمَ من رصيد الأيديولوجيا التى عبَّأت خطاباتهما، ومهَّد الأرض لمُقارباتٍ مُستقبليّة لن تُفضِى إلى خروج «حماس» أقوى ممّا كانت، ولا إلى نهايتها، كما لن تُمكِّن الاحتلال من رقبة «غزّة» لصالح تطلُّعاته الأمنية أو الاقتصادية. كأنَّ المشهد يعود إلى ما قبل السابع من أكتوبر، ببطءٍ وتعثُّر وشىءٍ من التعديل الطفيف، وفى ذلك اختلافٌ عملى عن السرديَّات الإيهاميّة بأن المنطقة تستقبل تحوُّلاً جيوسياسيًّا عميقًا، وأن القضية بصدد استكشاف حياةٍ مُغايرة لِمَا حُبِست فيه منذ الانتفاضة الأولى و«أوسلو» والانقسام.
ظاهرُ الاتّفاق أنه مُبادَلةٌ للأسرى، وفى باطنه مسارٌ وَعر نحو التهدئة، لا هو بالصدام الحارق ولا بالهبوط الناعم. حقَّقت إسرائيل بموجب التفاهم مكسبًا بتحرير دفعةٍ من المُحتجَزين، ما يُهدِّئ الأجواء السياسية المُحيطة بحكومة اليمين، ويُخفِّض منسوب الشارع الغاضب؛ لكنّها لقاء ذلك وافقت على ترتيباتٍ مُضادّة لكلِّ ما كانت تُروِّجه وتتشدَّد فيه، وأوَّله ألّا تسمح لمُقاتلى «القسّام» بالتقاط الأنفاس وترصيص الصفوف، وأن تضغط على القطاع بورقة الحصار والتجويع، وتفرض رقابةً مُتغطرسةً لا تُتيح للفصائل إعادة تركيب وجودها العسكرى، أو تعبئة مخزونها الاستراتيجى من الحاجات الأوَّلية، خاصّة الوقود.
عندما وافقت الحكومة الإسرائيلية على بنود الصفقة؛ كانت فى واقع الأمر تعترف بالهزيمة والفشل. تقبَّل نتنياهو مبدأ التفاوض مع «حماس» ناسفًا سرديَّة الإرهاب، كما فتح الباب لجولاتٍ تالية يتقلَّص عبرها طموحه من القضاء على الحركة إلى التطويع والاحتواء، فضلاً على ما وراء ذلك من إحباط مُخطَّط التهجير أو قَضْم مساحاتٍ من القطاع، واستبقاء السيطرة الأمنية بعد الحرب. أمَّا القادةُ الحمساويّون فإنهم أسقطوا خيار «الكلّ مُقابل الكل» عمليًّا، وقد قبلوا اتّفاقًا بتحرير خمسين واستعادة مائةٍ وخمسين، وبهذه القاعدة الحسابية فإن خزّانهم من الرهائن البالغين نحو 242 يكفى بالكاد للمُبادلة بأقل من ألف أسير، بينما كان العدد 5 آلاف قبل طوفان الأقصى وتجاوز السبعة بعدها، وأنهم قبل اثنتى عشرة سنة استرجعوا زهاء الألف مُقابل الجندى جلعاد شاليط.
ظلّ «الكابينت» على رفضه الشرس لفكرة الهُدنة الإنسانية، وغاية ما سمح به أن يتوقَّف القصف شمالاً 4 ساعات فقط؛ ليدفع المدنيِّين إلى الارتحال نحو الجنوب. لكنّ الصفقة الجديدة توفر 96 ساعة، وتمنع الطيران جنوبًا طوال المدة ولنحو 24 ساعة منها فى النصف الشمالى، والامتناع عن اعتقال أحدٍ أو مَنع العُبور جنوبًا، مع تمرير المساعدات والوقود لكلِّ المناطق دون استثناء. من الآثار المُحتملة أن تصل الشاحنات إلى «حماس»، وأن يُعاد نشر عناصر القسَّام، وربما يتيسَّر تجنيد مُقاتلين جُدد، ثم أن ينتقل القادة من مدينة غزّة ومحيطها إلى خان يونس وما بعدها، توطيدًا لما أثارته إسرائيل مصحوبًا بالهلع، عن تمركُز قيادة المُقاومة دون منطقة العمليات الحالية.
أمَّا الحركةُ فإنها تمسَّكت بالإغاثة لتعويض فواقدها، وحَظر الطيران لتأمين مخابئ الأسرى، وتحصين خطوط الانتقال جنوبًا؛ لإجلاء قادتها أو تعزيز دفاعاتها فى الميدان المُرتقب؛ لكنها تخلَّت عن إقرار حقّ الانتقال المُعاكس من أسفل إلى أعلى، ما يتصادم مع موقفها الرافض لترحيل السكان قسرًا، كما يُشير إلى احتمال أنها قد تحضَّرت للتخلِّى عن ارتكازاتها فى غزّة. تلك النقطة تُوافِق خطَّة الاحتلال، ولا تتناسب مع بيان حماس القائل إنها أبرمت الصفقة وفق رُؤية المقاومة، ومن موقع قوَّةٍ وثبات؛ بغرض خدمة الشعب وتعزيز صموده. يربح الساعون إلى السلام بإقرار التهدئة المُؤقَّتة، ويخسر طرفا النزاع بالتناقض الظاهر بين المُعلَن والمُضمَر، والأيديولوجى والحركى. والرصيد هنا يُصرَف لحساب محور التعقُّل، بالخطاب الثابت أو بقيادة الوساطة، بينما يخصم من الاحتلال بنازيَّته المُفرطة، ومن المُمانعين بشعاراتهم الجوفاء.
الثابتُ أن الذهاب إلى الهُدنة كان اضطراريًّا فى الجانبين. الفصائل اكتشفت أن ظهيرها العقائدى والميليشيَّاتى تركها وحيدةً فى المحرقة، والاحتلال وُضِع على صليبٍ جناحاه: جُرح الاقتصاد، ونزيف الدعم والصورة الأخلاقية. لنحو سبعة أسابيع لم تتلقّ «حماس» إسنادًا حقيقيًّا من أصدقائها المُسلحين تحت لافتة «وحدة الساحات»؛ لكنّ الغزِّيين وجدوا العَون فى نشاط الدبلوماسية العربية، وفى فاعلية المظلومية عندما تُرِك لها المجال أن تُخاطِب العالم. تتابعت المواقف الدولية من قمَّة القاهرة الدولية إلى النسخة العربية الإسلامية بالرياض، وقرار الأُمم المتحدة ثمّ مجلس الأمن، وقمّة باريس الإنسانية، ودعوة إسبانيا لمُؤتمرٍ دولى، وزحام المُقاطعة من دولٍ فى أفريقيا وأمريكا اللاتينية، وأحدثه «قمّة بريكس» قبل يومين برسائلها الصريحة فى شأن الاحتلال والتهجير. ترافق ذلك مع تبدُّل المِزاج العام بآلاف التظاهرات الحاشدة، وتعديل خطابات ماكرون والاتحاد الأوروبى وواشنطن، حتى بدا أن المُهلَة الوحشية الممنوحة لنتنياهو فى آخرها، وليست عند الضوء البرتقالى كما قال أحد وزرائه؛ بل إنها تجاوزته إلى ما بعد الأحمر الدامى.
أكثرُ ما يُؤثِّر فى السياسة الإسرائيلية أن ينصرف عنها الحليف الأمريكى. وقد فرضت تطوُّرات الميدان، وثِقَل الفاتورة الإنسانية، أن يعود «بايدن» ولو جزئيًّا عن جنونه الصهيونى الوقح. تحسَّنت رسائل إدارته، وقال بنفسه فى مقالٍ صحفى إنه يرفض التهجير والاحتلال وضَغط مساحة القطاع، ويرفض عنف المستوطنين، وينحاز لحلِّ الدولتين انطلاقًا من توحيد غزَّة مع الضفة، وتغليب قرار الفلسطينيين ووصايتهم على مُستقبلهم. النقطة الوحيدة التى ظلَّ على تلاقيه مع نتنياهو فيها أنه يرفض وقف إطلاق النار بصورةٍ نهائية، وكان يُمكن للأخير أن يقفز على موقف حليفه بالكامل، انطلاقًا من خبرته فى مُناورة المُؤسَّسات واللعب بمِزاج الأمريكيين؛ لولا أن الشارع انتفض بكامله، وانفضَّت عنه دوائر الدعم التقليدية لكثيرٍ من المحافظين والليبراليين وتيَّارات المسيحية الصهيونية.
كشف اجتماعُ الحكومة ما قبل إقرار الهدنة عن تحدٍّ جديد. انقسم اليمين التوراتى عموديًّا بصورةٍ صارخة؛ إذ وافق «سموتريتش» على الصفقة ورفضها «بن جفير» وحزبه. قد لا يُفضِى ذلك لإسقاط الحكومة فورًا، أو تعديل تركيبتها؛ لكنه يُمهِّد مسارًا لإعادة النظر فى الطبقة السياسية وتحالفاتها، لا سيما أن حظوظ اليسار تتصاعد فى كل استطلاعات الرأى، والمخرجُ من أوحال غزّة لم يعد مضمونًا دون تكاليف مُرهقة، وأنّ مصير رأس الحكومة بات محسومًا تقريبًا: الطوفان دقَّ مسمارًا غليظًا فى نعشِه، ولمَّا كان يخوض الحربَ على شرط النجاة وتعديل الموقف؛ فإن اضطراره للعودة مهزومًا، أو بتسويةٍ تستبقى «حماس» بأيّة صيغة؛ بمثابة المسمار الأخير وبدء مراسم الجنازة.
ميادينُ الحرب مُتحرّكة؛ لذا فالعودة واردةٌ والجمود مُمكِن. إنها مُواجهةٌ غير تماثُليّة، تخسر إسرائيل فيها بألّا تنتصر، وتكسب «حماس» بأن تظلّ على قَيد الحياة، وشرط الهزيمة أن يُقرّ بها المهزوم. عقل «تل أبيب» تسلَّط عليه الغباء والجنون؛ فطردَ المنطقَ لأسابيع؛ ثم ارتطم برُكام غزّة وأطلالها ليُعاين ما كان يتهرّب منه: طالت المُدّة دون إنجازٍ، وقتلاه أكثر من التقديرات المُسبَقة وبأس «حماس» أشدّ ممّا توقّع، والاقتصاد ينزف دمًا سيُوزَن لاحقًا بالأصوات والسِّلم المُجتمعى ومُستقبل البلد وجاذبيّته. إن كان ثمَّة انقطاعٌ عمّا قبل 7 أكتوبر فإنه واقعٌ على الطرفين: الاحتلال الذى تهشَّمت معنويّاته وقلعته العالية وثوابت حروبه البعيدة والخاطفة، والفصائل التى حرَّكت القضية لكنها خسرت بعض أطرافها وربما تخرجُ على كرسىّ مُتحرِّك. وتلك المُعادلة كافيةٌ لتغيير التوازنات فى أيّة لحظة؛ إمّا يأسًا بالعودة برأسٍ مُنكّس، أو طمعًا بالإيغال فى المُكاسرةِ ببندقيّةٍ مُشهَرة.
واكبت الأزمةُ الأخيرة طموحًا توراتيًّا يبتلع ائتلاف نتنياهو. ربما رأوا فيها فُرصةً لتصفية المقاومة الأُصوليّة بعدما لم تعُد ذخرًا لإسرائيل كما كان يقول «بيبى»، أو استعادة «غوش قطيف» وإطلالة غزَّة على البحر، وما وراء ذلك من تمرير قناة «إيلات/ المتوسط» من القطاع، والسيطرة على مكامن الغاز فى شواطئه. ما تبدَّى للآن أنهم ركّزوا على مُعادلة القوّة، وشِقّها الذاتى تحديدًا، وأغفلوا قُدرات الفصائل من التسليح إلى المُعتقد، كما أهملوا طواحين الهواء التى قد تُحرِّكها رياحُ الرأى العام فى تحوّلاتها الداخلية والخارجية. المشهد الآن مُجمَّدٌ عند انسدادٍ عسكرى واضح، وتحدّياتٍ أمنية لا تُعرَف مآلاتها القريبة والبعيدة، وتشقُّقٍ صادم لفلسفة «الاستنزاف الطويل» وارتداداتها المُعاكسة، وقد بدا أنها تستنزف الدولة الصهيونية بأكثر ممّا تُصفِّى شرايين المُقاومة؛ إذ تتطلّب الانتقال من الآلات إلى القوّات الراجلة، مع التحضُّر لخسائر قد لا تحتملها جبهة الداخل، فضلاً على تشابك الحسابات مع الضفّة وجنوب لبنان، وربما فى الجولان واليمن والعراق وغيرها.
كلُّ ما فات كان الوجهَ الأبسط للحكاية؛ فما تحصَّلت الذروةُ فى الصراع ولا فى الخسائر. الهُدنة تُنعش «حماس»، وإذا كان اقتصادُ «غزّة» اليوم محصورًا فى شاحنات المُساعدات؛ فإنّ الاتفاق بمثابة الطفرة السوقية الطارئة، بينما لن تتوقَّف خسائر إسرائيل. وإن عاد الصدام فسيكونُ من الصفر للاحتلال ومن نُقطةٍ مُتقدِّمة للحركة، كما أن «خزّان الأسرى» يكفى لتجديد الصفقة خمس مرَّات، مُتّصلة أو مُتقطِّعة، صحيحٌ أنّ الغزِّيين خسروا ورقة تبييض السجون؛ لكنهم سيُجبرون العدوّ على فواتير الحرب لعشرين يومًا من الهدوء. يترجَّح من ذلك أن تكون الهُدنةُ المُؤقّتة مُفتتَحًا لتهدئةٍ طويلة؛ لا سيّما أن جهود مصر وعمّان وضغوطهما تتواصل، ومعهما المجموعة العربية الإسلامية، وصحوة الضمير العالمى.. وضعَ الجميعُ قدمًا على أوَّل الطريق، ومهما عاندت الطبوغرافيا أو تزاحم السائرون بالمناكب؛ فلن يظلّ المشهدُ على حاله، وربما يتعيَّن على الخصمين النظر فى أنصبتهما من الهزيمة؛ بعدما ثبت قطعًا أنه ليس فى مقدور أحدهما أن يُطيحَ غريمه عنوةً، ولا أن يحتكر النصر والمغانم مُنفردًا، وعلى شرط الإلغاء الكامل أو الهيمنة الطاغية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة