أبحرت الباخرة البريطانية «كوين مارى» من نيويورك بعد ظهر 27 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1947، وعلى متنها عدد من رؤساء وفود الدول الذين شاركوا فى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، للعودة إلى بلادهم، بعد أن استمر دور الانعقاد لهذه الدورة ثلاثة شهور، حسبما يذكر الدكتور محمد حسين هيكل باشا فى الجزء الثالث من مذكراته «مذكرات فى السياسة المصرية».
تكتسب هذه الدورة لاجتماعات الأمم المتحدة أهميتها التاريخية من أنها اختتمت أعمالها بإقرار «تقسيم فلسطين» بين العرب واليهود كمقدمة لإعلان دولة إسرائيل، وكان «هيكل باشا» رئيس مجلس الشيوخ هو رئيس الوفد المصرى الذى شارك فى هذه الاجتماعات، وكان شاهدا على ما جرى فى الكواليس ويسجل وقائعه فى مذكراته، مشيرا فيها إلى تعدد اجتماعات الوفود العربية فى فندق «ولدورف استوريا» بصالون الأمير فيصل بن عبدالعزيز رئيس الوفد السعودى لمناقشة الأمر، والدور الأمريكى الضاغط والسافر فى انحيازه لليهود، والدور البريطانى الخادع للأطراف العربية، وموافقة «السوفييت» على التقسيم بوهم «أن اليهود الذين هاجروا من ألمانيا ومن بولونيا وتشيكوسلوفاكيا بينهم عناصر شيوعية كثيرة، يمكن أن تجعل من الدولة الجديدة التى يراد إنشاؤها نقطة ارتكاز فى الشرق الأوسط تعاون روسيا إذا نشبت حرب عالمية ثالثة، وكان الحديث حول هذا الحرب مستفيضا فى ذلك الحين».
يذكر «هيكل باشا» أن قرار التقسيم كان يحتاج من أجل إسقاطه إلى ثلث الأصوات بالجمعية العامة للأمم المتحدة، وتحدد يوم 27 نوفمبر 1947 لجلسة تنظر فيها مسألة فلسطين، وكان الرأى السائد أن تؤخذ الأصوات فى جلسة الصباح، أوفى جلسة بعد الظهر على الأكثر، وأن الوفود العربية اقتنعت بأن الموضوع سيفصل فيه بما يعتقدون أنه الحق والعدل، ويضيف أن حالة من السرور سادت عندهم حين علموا ليلة انعقاد الجمعية العامة أن الجنرال «رومولو» رئيس وفد الفليبين سيخطب لمصلحة العرب، وأن ممثلى بعض الدول الصغيرة غير الخاضعة للنفوذ الأمريكى المباشر ستصوت ضد القرار، وأن بعض الدول الخاضعة للنفوذ الأمريكى المباشر ستغيب عن جلسة التصويت، وأن كل ذلك أدى إلى زيادة الأمل فى سقوط قرار التقسيم، مما بعث بعض الطمأنينة لدى الوفود العربية.
يؤكد، أنه حضر الجلسة صباح 27 نوفمبر، واستمع إلى رئيس وفد الفليبين يؤيد سياسة العرب، وعرف أن جلسة التصويت تأجلت إلى الغد، ثم ركب الباخرة عائدا إلى القاهرة، وكان معه رئيس وفد السوفييت «مستر فيشنسكى»، ورئيس وفد لبنان «شارل مالك»، والسير «شوكروس» النائب العام البريطانى، وكثيرون غيرهم، ويضيف أنه علم فى الصباح أن الجلسة تأجلت إلى الغد، ولم يكن أحد يتوقع هذا التأجيل، وفى مساء الغد علم أنها تأجلت إلى اليوم التالى، ثم صدر القرار فى هذا اليوم الثالث (29 نوفمبر) وأذيع أن الجمعية أقرت قرار التقسيم، وعلى ذلك أصبح للدولة الصهيونية أن تقوم باسم دولة إسرائيل تنفيذا لهذا القرار.
يواصل هيكل فى شهادته كشف ما جرى فى الساعات الأخيرة قبل التصويت، قائلا، إنهم وهم على الباخرة كان رئيس وفد لبنان شارل مالك يتلقى تليفونات خاصة من نيويورك، وذكر له محدثوه أنه على أثر إلقاء الجنرال رومولو خطابه اتصل البيت الأبيض من واشنطن برئيس جمهورية الفليبين، وقام بتذكيره بأن الولايات المتحدة اعترفت باستقلال الفليبين منذ سنوات قليلة، وأنها لم تكن تنتظر أن يكون جوابها على هذا الاعتراف أن تعارض سياسة أمريكا فى مسألة تعيرها أهمية كبرى، وأن الرئيس ترومان يعتبر مثل هذا الموقف غير متفق عليه، وطلب من رئيس الفلبين أن يصدر إلى وفد بلاده فى الأمم المتحدة تعليمات بالتصويت مع قرار التقسيم، وهو ما حدث.
يضيف هيكل باشا، أنهم علموا أيضا أن بعض الذين وعدوا من ممثلى الدول الصغيرة بالتصويت ضد القرار لم يحضروا الجلسة، وتضاربت الشائعات فى سبب ذلك، فذهبت بعض الأقوال إلى أن البوليس الأمريكى منعهم بحجة أو بأخرى من الذهاب إلى مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة، ورغم كل هذه الإجراءات لم ينل قرار التقسيم ثلثى أصوات الحاضرين، ولم يبلغ الرافضون للتقسيم ثلث الحاضرين كذلك، لأن عددا من الدول امتنعت عن إعطاء أصواتها، ولما كان الذين صوتوا فى مصلحة التقسيم يزيدون على ضعف الذين صوتوا ضده فقد اعتبر هذا تصويتا فى مصلحة قرار التقسيم، كما أقرته الأمم المتحدة، وأعلن ذلك فى الجمعية العامة، وأذيع فى أرجاء العالم جميعا.
يؤكد: «عادت وفود الدول العربية إلى بلادها وقد أيقنت أن الحق والعدل ألفاظ لا مدلول لها فى قاموس السياسة، وأن الدول صاحبة القوى المادية عسكريا واقتصاديا هى صاحبة الكلمة النافذة، وأن التفكير فى عالم أفضل، أو فى سلام عالمى دائم لا يعدو أن يكون ضربا من أمانى الخيال».