الصناديقُ أوّلُ الديمقراطية لا آخرها، والتجربةُ المصرية المرهقة مع «الإخوان» أكَّدت أن الشعارات الزائفة لا تُفضِى بالضرورة إلى مُمارسات بيضاء، والانغلاق على أيديولوجيا عدائيّة مصيرُه الوحيد أن تختنق السياسة أو يقع الصدام، ومهمَّة المُشتغلين بالشأن العام أن يُنتجوا لغةً صالحةً للحوار برغم الاختلاف والتناقضات، وأن يتدرَّجوا صُعودًا من الجزئى للكُلِّى، ومن التكتيكى إلى الاستراتيجى، وإن كانت ثمَّة رسالة واحدة فى الانتخابات الرئاسية؛ فإنها تأكيدُ البديهىّ فى وُجوب البدء من الشارع، وترقية أدبيَّات الصراع السلمى بما يتجاوز الهجاءَ الساذج أو الهجومَ الجارح، وأن تُؤمن المُعارضة والمُوالاة بأنهم جميعًا جنودٌ على جبهة الدولة، لا مُلّاك ولا خصوم.. وقد أفضت الجولة لخُلاصاتٍ غنيَّة بالدلالة؛ أوّلها أن القاعدةَ الشعبية ربما لا ترى الصورةَ كما تراها النُّخبة، وأنَّ الأولويات محكومةٌ دائمًا بسياقات داخلية وخارجية، وإذا أردت أن تربح المُباراة، أو تتربَّح منها؛ فلا بديلَ عن الإعداد والتأهيل أوَّلاً، ثمَّ نزول الملعب فى الميقات الصحيح.
فى كُرة القدم، كما فى السياسة وبقيَّة المعارك الناعمة، قد لا يكون منطقيًّا أن تُطالب المُنافس بأن يُخلِى مرماه ويفتحَ خطوطَ دفاعه؛ لأجل أن تقتنص هدفًا سهلاً لم تجتهد لاستيفاء شروطه الموضوعية، على الجميع الالتزام بقانون اللعب؛ ثمَّ على راغبى المُنافسة أن ينفذوا من الثغرات المُتاحة؛ لترقية حضورهم وفَرض ولايتهم على الميدان. وما أدمنته البيئةُ السياسية أنَّ كثيرًا من الأحزاب لا تُنجِز فروضَها، ولا تصطحبُ الجمهور فى مواجهاتها، ورغم ذلك تُريدُ الفوز بالتشجيع والنقاط. فعلتها الجماعةُ الإرهابية بصورٍ شتَّى منذ السبعينيات، وعندما تيسَّر لها اختطافُ السلطةِ أغلقت الملعبَ وطردت اللاعبين؛ وكانت الجماهيرُ عاملَ الحسم الذى أعاد الأمور لنصابها، إنّما فى غيبةٍ واضحة للأبنية الحزبيّة. وتتجلَّى اليوم، بأكثر ممَّا كان فى أيّة لحظة سابقة، أهميةُ أن يخرج السياسيِّون من الشرنقة التى نسجوها على قياس واقعهم لا آمالهم؛ والتوبة عن الماضى أوَّلُ الخروج إلى الحاضر والمستقبل.
أُجبِرت الدولةُ قبل عشر سنواتٍ على مسارٍ محدود الخيارات، تفاعلت وقائع يناير وما بعدها لتُنتج مناخًا مُشوَّهًا، وتولّى الشعبُ زمامَ المُبادرةِ بالأصالة بعدما خذله وكلاءُ السياسة، وبدا أن الرجعيّة الدينية تجترح تهديدًا وجوديًّا لا يُمكن الحياد معه، كانت ثورة 30 يونيو؛ ثمّ الحرب الشعواء مع الإرهاب، وتحدِّيات الأمن والاقتصاد وترميم الصورة الدولية، وحتى 2019 ظلّ الامتحان قائمًا ويتَّخذ صِيغًا مُتجدِّدة: الحاجةُ المُلحَّة للإصلاح محليًّا، وامتصاص آثار الانحياز للأُصوليّة عالميًّا، وطَوق النار من ليبيا إلى السودان وحوض المتوسط، اللحظة التى استتبَّ فيها الأمنُ؛ صار بإمكان الدولة أن تُجرِّب دُروبًا أُخرى؛ فكانت الدعوة الرئاسية للحوار الوطنى، أراد البعضُ أن يُصوِّروها تجاوبًا اضطراريًّا مع المحنة، وأرادت الإدارة السياسية أن يكون تحرُّكًا إلى الأمام؛ فلم تنشغل بالمُناكفات أو تُقيِّم التجربة بأداء بعض مدعوِّيها. وإن كانت المصلحةُ الوطنية تقتضى أن يُعاد بناءُ البيئة السياسية؛ فإن ذلك لا يجرى على شرطِ العودة إلى خيار مرفوض، بقدر ما هو تنشيطٌ لمسارٍ أجَّلته الظروف، ولم يكن سياقُه ناضجًا.
كثيرون رأوا المشهد على حقيقته، وآخرون تمسَّكوا بالتفسير السهل؛ انطلاقًا من أوهام القوَّة الزائفة. وكانت المُحصِّلة أن أنجز «الحوار» جولتَه الأولى، وانتقل المُتحاورون صعودًا إلى الاستحقاق الرئاسى، وحضرت أغلبيةٌ شعبية غير مسبوقة لإكمال شرعية الورشة الوطنية الجامعة. ويُمكن أن يتمادى مُحبّو التنظير فى تبرير حالة العُقم التى تعيشها بعضُ التيارات؛ إنما الواقع أن المجال العام صار أكثر زخما وحيويّة، وأنَّ الثمار يقطفُها الساعون إليها ولا تسقُط مجانًا على الراغبين، العملُ الجاد وحده يُمكن أن يُوسِّع مساحات الأحزاب أو يُؤكِّد انحسارها، لكنّ المُفارقة أن بعض الذين يلوكون جُملة عبد الناصر الصادقة «الشعب هو القائد والمعلم» لا يعملون بحقِّها عن اعتقادٍ صافٍ، هكذا كان الإخوان أيضًا؛ صاغوا المدائح للجمهور عندما نزل إلى الشارع فى 2011، وعندما استجاب للرشاوى والدعايات الدينية، ثم أهانوه واحتقروا إرادته وقتما ثار عليهم وأنهى سلطتهم، الاتِّساق القِيَمى يفرضُ أن يكون الناسُ الثابتَ الوحيد فى المُعادلة؛ فإن وافقتَ رُؤاهم فقد أحسنت، وإن انفضُّوا عنك فقد أخفقت، وعلى أهل السياسة أن يتواضعوا قليلاً؛ لتتوافق الخطاباتُ مع المُمارسات.
لدى التيَّار الناصرى مثلاً تجربتان كاشفتان: نائبٌ ورئيسُ حزب سابق، وآخر تحت القبّة لفصلين مُتتاليين، الأوَّل كان راغبًا فى الترشُّح للرئاسة؛ لكنه استعاض عن التأسيس العاقل لبرنامجٍ سياسى مقبول، وبدائل فكرية وعمليّة مُقنعة، بالذهاب فى فاصلٍ شعبوىٍّ صُلبه الهجاء والحنجورية والعواطف المُبتذَلة، فى المقابل، يُقدِّم الثانى، ضياء الدين داود، تجربةً جديرةً بالاحترام؛ فلم يتخلّ عن قناعاته، ولم يُغادر ضفَّة المُعارضة؛ لكنه يصيغ خطابًا مُتّزنًا وعميقًا، ويضبط المقادير بما يسمح بإثارة كلِّ الموضوعات، دون تعكير المياه مع الأغلبية والدولة، ولا فى المساحة المُشتركة للاستيعاب والفهم المُتبادَل، النموذج الفجُّ كان شريكًا فى تحالفٍ سابق مع الإخوان، ثم جدَّد الاتصال بهم قبل الموعد الرئاسى، أمَّا النسخةُ الرصينة فكان خصيمًا للتنظيم ولا يزال، ولم يضع ثابته المبدئى على ميزان المنفعة العارضة، كلاهما ناصرىّ، وكلاهما ينطلقُ من مرجعيّةٍ ماضويّة؛ لكنَّ واحدًا يُعيد إنتاج الماضى بكل مساوئه، والآخر يخلطه بماء الحاضر فيستخلصُ عجينًة صالحة للتشكيل بما يُلائم الواقع، ويتجاوب مع البيئة وتطوُّراتها.
المثالُ السابق يُمكن التماسُه بتنويعاتٍ مُختلفة لدى كلِّ التيارات، السلطةُ التى أفرزتها الضرورةُ وشكَّلتها التحدِّيات الوجودية، لم تعد كما كانت فى 2013، والجمهور الذى جرَّب سيولة 2011 وعاين مخاطرَ الأُصوليّة العنيفة تبدَّلت رؤاه وأفكاره، والمُؤسِف أنّ كثيرًا من الأحزاب، المعنيّة بأدوارٍ طليعيّة فى الأساس، تجمَّدت فى محطَّةٍ تجاوزها الزمن: بعضُها لم تُغادر خيامَ التحرير والبعض خلف «مرسى» فى فيرمونت، والأكثر تطوُّرًا يتحسَّسون اللحظة المُناسبة لاختطاف الجمهور، واتخاذهم رهائن فى صناديق الاقتراع كما جرى فى 2012، دون أن يحترموا الناخب أو يعملوا بواجب الصندوق. وإن ظلَّ الجُمود على حاله بعد السباق الرئاسى؛ فقد يكون العلاج فى أن يتخلَّى المُقيمون فى الماضى عن مواقعهم، وأن تصعد طبقةٌ سياسيّة أكثر تعقُّلاً ولياقة، وأقدرُ على إيقاف النزيف داخل الأحزاب، قبل البحث عن موطئ قَدمٍ لكياناتٍ مريضة، لم تُغادر غُرفَ العناية الفائقة.
المأزقُ أن فريقًا من أهل السياسة يعتبرون الشعبية أصلاً ثابتًا لا يقبل المُراجعة؛ فيتحرّكون الآن بشعور المحمولين على الأعماق فى لحظةٍ ماضية، أحدُ الوجوه البارزة ترشَّح فى الانتخابات الرئاسية بعد يناير وحاز عدّة ملايين من الأصوات؛ لكنه بعد يونيو حلَّ تاليًا للأصوات الباطلة، وأخيرًا عجز عن تمرير مُرشَّحِ حزبه إلى السباق أصلاً.. ديناميكيةُ الشارع لا تلقى تجاوبًا من الساعين إلى تمثيله أو النيابة عنه فى إدارة شؤونه؛ فكأنهم يُعيدون اختراع التجارب من إرهاصاتها، لا ممّا وصلته من تقدُّم. فبدلاً عن حجز مقعدٍ على الطائرة؛ يضعون أجنحةً ورقيّة ويُجرّبون الطيران على طريقة عباس بن فرناس. والواقع أن تجربة الرئاسة 2024 لا تنفصل عن سابقتيها، والثلاثة لا تبتعد من أجواء ثورة يونيو. المنظومةُ القائمة لعبت دورًا إنقاذيًّا للدولة بكاملها، وليست فاعلاً طارئًا أو وارثًا بالمصادفة والنسب، والسعى إلى التنافس مع فلسفةِ حُكمٍ تتأسَّس شرعيتها الأكبر على استعادة البلد من الضياع؛ ثمَّ على القبول المتفاوت من الجمهور بين استحقاق وآخر؛ يجب أن ينطلق من الاحتكام لقوانين اللحظة الوطنية بعد 30 يونيو، وأهمّ موادّها أنه لا سبيلَ لاستدعاء الأعداء نكايةً فى الخصوم، ولا للارتداد عن المسار المُتَّفق عليه قبل عشر سنوات، الأحزاب التى يعلوها تُرابُ النظامين السابقين تُدير حضورَها بالقواعد القديمة، وقليلٌ من الساحة فقط تنتمى إلى الثورة المدنية أو تنبعُ منها. وإذا كان الخطابُ سابقًا يقوم على الشراكة فى الثورى والاختلاف على السياسى؛ فإنَّ المُشاركة القياسية فى الانتخابات الأخيرة دمجتهما معًا؛ فصار أبرز وجوه يونيو مُتوَّجًا بأعلى نسبة مُشاركةٍ وتصويت فى تاريخ التجارب المصرية، وصار الاعترافُ بشرعية الإنقاذ ومشروعية الانتخاب واجبًا، وهنا يبدو من الضرورى أن يُصار إلى خطابٍ غير ما كان، وإلى آليات عملٍ أكثر تطوُّرًا من سابقتها التى ارتكنت إلى الطعن فى الصندوق والصراع على الشارع.
اللحظةُ الرئاسية تفرضُ التزامات على الجميع، فمن جانب الدولة، يتعيَّن استكمال مسار الانفتاح، وتنشيط الحياة السياسية، وأن تلتئمَ ورشة الحوار مُجدَّدًا على فلسفةٍ تكامُليّة لا صراعية، تشتغل أطرافها بمنطق التَقَوّى والتسانُد ببعضهم؛ لإنعاش المجال العام، لا لهيمنةِ فريقٍ أو ابتزاز آخر، وكلُّ ما سبق لم يغب عن أحاديث الرئيس الفائز، قبل الانتخابات وبعدها، ولا شكَّ ستكون الأوضاعُ الأمنيّة والاقتصادية على رأس الأولويات، وقد لعبت الدولةُ دورًا بارزًا على المحور الشرقى، لا يتوانى عن دعم الفلسطينيين، ولا يُقصِّر فى التصدِّى لمُخطَّطات التهجير وتصفية القضية. والعَين على ليبيا والسودان، وفى المُتوسِّط والبحر الأحمر أيضًا، كما لا تغيب لبنان وسوريا والعراق عن رادار المصالح الوطنية العُليا، أمَّا داخليًّا؛ فقد تصدَّت حكومةُ مصطفى مدبولى لمرحلةٍ دقيقة فى آمالها وتحدِّياتها، وأنجزت فى كثيرٍ لا يُمكن إنكاره، وتعطَّلت أو ارتبكت فى كثير، وعاندتهم الظروف الإقليمية والدولية فيما هو أكثر وأقسى. وإن كانوا يستحقّون الشُّكر على ما بذلوه؛ فإنّ المرحلةَ المُقبلة تتطلَّب خيالاً جديدًا، وإيقاعًا أكثر تجاوبًا مع حيويّة الرئاسة ونشاطها الدؤوب، وعندما جدَّد الناخبون ثقتهم فى الرئيس لولايةٍ ثالثة، كانوا يُصوِّتون على تعاقُدٍ جديد، صحيح أن الأمن القومى وأوضاع «غزّة» تتقدَّم بنوده، لكنّ أُمور الاقتصاد والمعيشة والرعاية الاجتماعية لا تغيب عنه، كما لا تغيب المشروعاتُ القومية التى حاول البعض اتِّخاذها منصّةً للنقد والهجوم من باب الأولويّات؛ لكنَّ الجمهور بتصويته غير المسبوق فى الرئاسة أقرَّ هذا التصوُّر التنموى، وترك ترتيب الأولويات لعُهدة صاحب المشروع وحائز الثقة.
إن كان لا خلافَ على مهام الدولة المُقبلة فى أمور الاقتصاد والاجتماع والأمن؛ فالسؤال الأهم لاستكمال معالم المرحلة؛ بما يجعلها حقبةً حقيقية للتضامُن والعمل الجماعى، أن تبحثَ الأحزابُ ما لها وما عليها، وتُرتِّبَ التزاماتها بالصورة التى لا تضع الحصادَ قبل الزراعة، ولا تُحرِّرها من الأعباء الواجبة لقاءَ اتِّخاذ السلطةِ شمَّاعة تُعلِّق عليها إخفاقاتها، الداخلية قبل الخارجية. تموجُ الساحةُ بأكثر من مائة حزبٍ، والتأصيل القانونى يقضى بألَّا تكون مُتشابهةً فى الأفكار والبرامج؛ لكنّها فى واقع الأمر عبارة عن أربعة أو خمسة تجارِب، ثمَّ طابورٌ طويل من الاستنساخ شِبه المُتطابق، فالمهمَّة الأُولى أن تنضبط حالة الفوضى والانفلات، ويبحث كلُّ كيانٍ عن هُويّة تُميّزه، ولا يختصم فيها مع توائم سياميّة على جمهورٍ محدود. وأن تعود إلى أدوارها الأساسية؛ لناحية أنها منصَّاتٌ مدنيّة إصلاحيَّة تملأ المساحة بين الدولة والمواطن، وأنها ليست أكاديمياتٍ ولا مراكزَ بحثٍ نخبوية، فالحزب الذى لا أثر لتُراب الشارع على أحذية قادته، سواء كانت الطريقُ مُمهَّدةً أو مليئة بالحُفَر والمطبَّات، هو شىءٌ آخر بالكُلِّية سوى أنه مرفقٌ سياسى.
تبدأُ المآخذ من الأيديولوجيا وتنتهى إلى الانفصال عن الواقع، ثمَّة يسارٌ يُذاكِر أوراق لينين وتروتسكى على حالها القديمة، وبعضُهم ما زالوا يُردِّدون مع كريس هارمان: «مع الإسلاميين أحيانًا، ضدّ الدولة دائما»، ولدينا ناصريَّةٌ لم تفكّ قُيود الستينيَّات عن أعناقها، وبينما تقول إنه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»؛ تُثير الغبارَ فى أوقات المعارك، ولا يُمكن أن تُعاين منها إلَّا أصواتها الزاعقة. ويتَّسع المقام للبحث فى محنة الليبرالية الكلاسيكية وقد انفصلت عن العوام، وفى نسختها الاجتماعية التى يتشاجر عليها اليمين واليسار دون ضابطٍ منهجىٍّ أو حركى، وفى انفتاح بعض الحزبيِّين على أبنيةٍ مدنيّة اختارت أن تكون معابر سياسية لبعض الأجندات الوافدة، فصار السياسى حقوقيًّا أرستقراطيًّا فى بيئة كادحة، والحقوقى سياسيًّا بعلامةٍ تجاريّة مُستورَدة، ولم يعتذر الذين عملوا مع القذافى وصدَّام، ولا العاملون مع الإخوان، والمستثمرون فى التمويلات الخارجية، والذين يرمون الدولة بالشمولية ويُمارسونها داخل كياناتهم الهشَّة. وما لم تستخلِصْ الأحزابُ وصفةً موضوعيّةً للتعافى ذاتيًّا؛ فلا معنى لأن تختصم المجال العام بكامله، سُلطةً وأفرادًا، بينما لا تقوم على ساقين صالحتين للمشى أصلاً.
المنفعةُ التى تحقَّقت فى سباق الرئاسة، ويجب البناءُ عليها دون تعجُّلٍ أو تقصير، أنّ قطاعًا من الجمهور ماضٍ فى استعادة الثقة بالأحزاب، وقد خذلته طويلاً. قد يأخذُ الأمر وقتًا منهم فى استيعاب الصيغة الغريبة لدى البعض؛ كأنْ يُؤسِّس «رجل أعمال» حزبًا ويرأسه، طمعًا فى التحقُّق أو تعويضًا عن شعورٍ عميقٍ بالنقص؛ لكن التراكُم وإنضاج التجربة بالمُمارسة العضويّة مع الناس، كفيلان بفرز الغثّ من السمين، وإعادة ترتيب الأوزان النسبية للقوى الحاضرة فى الساحة، بعيدًا من وجاهة رموزها أو ثرواتهم، ومن التعيُّش على تُراثٍ بالٍ، أو الحنين لنجاحاتٍ قديمة أكلتها السنوات الحارقة. وإن كان طبيعيًّا ومفهومًا ألَّا يُريدَ البعضُ الوصول لتلك المرحلة، بغرض الاحتفاظ بمراكز معنويّة سرقوها فى الزحام، أو بأدواتٍ استعراضيّة فجّة؛ فإنّ من مصلحة الجادين أن تنتظم السوقُ ويُعرَض الجميعُ على الزبائن، فيتحدَّد السعرُ فى ضوء القيمة، وليس بشطارة البائع، أو ضوضائه فى النداء على بضاعةٍ كاسدة.
الانتخاباتُ البرلمانيةُ المُقبلة محطةٌ فاصلة، لكنّ الطريق إليها قد تمرُّ عبر جولةٍ جديدة من الحوار الوطنى؛ والجمهور بعدما وقَّع بالحضور فى صناديق الرئاسة، لا يُمكن افتراض أنه ما زال غائبًا عن فاعليَّة المُتابعة والفرز والتقييم، الثوابتُ التى ترجمها الاستحقاقُ الأخير، أنّ المصالح العُليا تتقدَّم على الحاجات الظرفية، ولا مُناكفة فى أمور الأمن القومى، كما لا تراجع عن «ميثاقية 30 يونيو» وثوابتها الصارمة، وأوَّلُها أنه لا مكان للرجعيّة الدينية المُلطَّخة بالعمالة والدم، الذين عملوا مع «الإخوان» قبل الرئاسة خسروا، والذين سيعملون معهم مُستقبلاً لن يجدوا مَوطئًا فى المشهد، والحزب الذى يكتفى بلافتةٍ أو زعيمٍ يُحسِن الخطابةَ وصعودَ المنابر؛ لن يُغادر مقرَّه الضيِّق مهما تردَّد صراخه فى المنتديات ومنصّات الإعلام المُلوَّنة.. يبدأ البناء دائمًا من أسفل، ولا يصلحُ البيت للسكن واستقبال الضيوف قبل أن يُرتَّب داخليًّا. الدولة أبدت انفتاحًا يُمكن أن يُعزِّز ورشةَ التأهيل الحزبية؛ والذين شاركوا فى جولة الرئاسة أحرزوا حضورًا قابلاً للصَّرف مُستقبلاً، ولعلَّه يُترجَم سريعًا فى حصَّتهم البرلمانية المُقبلة. يتبقَّى أن ينضج الباقون، وأن يتوقَّفوا عن التعالى على الجمهور، وعلى أنفسهم أيضًا، فلا معنى لإصرار المريض على إنكار عِلَّته؛ إلَّا أنه لا يحترم جسمَه وعافيته، والساحة السياسيةُ والشعبيةُ يُمكن أن تُشفق على الضعفاء وتترفَّق بهم؛ لكنها لن تُعوِّض ضعفهم بدلاً منهم، ولن تُكافئهم بهدايا مجَّانية.. تُبنَى الزعاماتُ بين الناس، والأنبياءُ فقط يأتون من أعلى؛ أمَّا الأحزاب والمُتحزِّبون فإن حاولوا الهبوط على العوام من السماء؛ سرعان ما يكتشفون أنهم شياطين، كما جرى مع الإخوان.. وأخطر ما يُهدِّد المشتغلين بالشأن العام؛ أن تُطيّرهم الأوهام ولا ترتاح أقدامهم على الأرض.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة