وقعت العديد من الأحداث في سنة 231 هجرية في زمن الخليفة الواثق بالله، ابن الخليفة المعتصم، فما الذي جرى وما الذي يقوله التراث الإسلامي؟
يقول كتاب البداية والنهاية لـ الحافظ ابن كثير تحت عنوان "ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين":
فيها: وقعت مفاداة الأسارى المسلمين الذين كانوا في أيدي الروم على يدي الأمير خاقان الخادم وذلك في المحرم من هذه السنة، وكان عدة الأسارى أربعة آلاف وثلثمائة واثنين وستين أسيرا.
وفيها: كان مقتل أحمد بن نصر الخزاعي، رحمه الله وأكرم مثواه.
وكان سبب ذلك أن هذا الرجل وهو: أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي وكان جده مالك بن الهيثم من أكبر الدعاة إلى دولة بني العباس الذين قتلوا ولده هذا، وكان أحمد بن نصر هذا له وجاهة ورياسة، وكان أبوه نصر بن مالك يغشاه أهل الحديث، وقد بايعه العامة في سنة إحدى ومائتين على القيام بالأمر والنهي حين كثرت الشطار والدعار في غيبة المأمون عن بغداد كما تقدم ذلك، وبه تعرف سويقة نصر ببغداد.
وكان أحمد بن نصر هذا من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن، يدعو إليه ليلا ونهارا، سرا وجهارا، اعتمادا على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المأمون، من غير دليل ولا برهان، ولا حجة ولا بيان، ولا سنة ولا قرآن.
فقام أحمد بن نصر هذا يدعو إلى الله وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن النكر والقول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، في أشياء كثيرة دعا الناس إليها.
فاجتمع عليه جماعة من أهل بغداد، والتف عليه من الألوف أعداد، وانتصب للدعوة إلى أحمد بن نصر هذا رجلان وهما: أبو هارون السراج يدعو أهل الجانب الشرقي، وآخر يقال له: طالب يدعو أهل الجانب الغربي فاجتمع عليه من الخلائق ألوف كثيرة، وجماعات غزيرة.
فلما كان شهر شعبان من هذه السنة انتظمت البيعة لأحمد بن نصر الخزاعي في السر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخروج على السلطان لبدعته ودعوته إلى القول بخلق القرآن، ولما هو عليه وأمراؤه وحاشيته من المعاصي والفواحش وغيرها.
فتواعدوا على أنهم في الليلة الثالثة من شعبان - وهي ليلة الجمعة - يضرب طبل في الليل فيجتمع الذين بايعوا في مكان اتفقوا عليه، وأنفق طالب وأبو هارون في أصحابه دينارا دينارا، وكان من جملة من أعطوه رجلان من بني أشرس، وكانا يتعاطيان الشراب.
فلما كانت ليلة الخميس شربا في قوم من أصحابهم واعتقدا أن تلك الليلة هي ليلة الوعد، وكان ذلك قبله بليلة، فقاما يضربان على طبل في الليل ليجتمع إليهما الناس، فلم يجيء أحد وانخرم النظام وسمع الحرس في الليل فأعلموا نائب السلطنة، وهو محمد بن إبراهيم بن مصعب، وكان نائبا لأخيه إسحاق بن إبراهيم، لغيبته عن بغداد، فأصبح الناس متخبطين.
واجتهد نائب السلطنة على إحضار ذينك الرجلين فأحضرا فعاقبهما فأقرا على أحمد بن نصر، فطلبه وأخذ خادما له فاستقره فأقر بما أقر به الرجلان، فجمع جماعة من رؤوس أصحاب أحمد بن نصر معه وأرسل بهم إلى الخليفة بسر من رأى، وذلك في آخر شعبان.
فأحضر له جماعة من الأعيان وحضر القاضي أحمد بن أبي داؤد المعتزلي، وأحضر أحمد بن نصر ولم يظهر منه على أحمد بن نصر عتب، فلما أوقف أحمد بن نصر بين يدي الواثق لم يعاتبه على شيء مما كان منه في مبايعته العوام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره، بل أعرض عن ذلك كله وقال له: ما تقول في القرآن؟
فقال: هو كلام الله.
قال: أمخلوق هو؟
قال: هو كلام الله.
وكان أحمد بن نصر قد استقتل وباع نفسه وحضر وقد تحنط وتنور وشد على عورته ما يسترها فقال له: فما تقول في ربك، أتراه يوم القيامة؟
فقال: يا أمير المؤمنين ! قد جاء القرآن والأخبار بذلك، قال الله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة: 22] الآية.
وقال رسول الله ﷺ: «إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته». فنحن على الخبر.
زاد الخطيب قال الواثق: ويحك ! أيرى كما يرى المحدود المتجسم؟ ويحويه مكان ويحصره الناظر؟ أنا أكفر برب هذه صفته.
قلت: وما قاله الواثق لا يجوز ولا يلزم ولا يرد به هذا الخبر الصحيح، والله أعلم.
ثم قال أحمد بن نصر للواثق: وحدثني سفيان بحديث يرفعه: "إن قلب ابن آدم بأصبعين من أصابع الله يقلبه كيف شاء".
وكان النبي ﷺيقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
فقال له إسحاق بن إبراهيم: ويحك ! انظر ما تقول.
فقال: أنت أمرتني بذلك.
فأشفق إسحاق من ذلك وقال: أنا أمرتك؟
قال: نعم ! أنت أمرتني أن أنصح له.
فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون في هذا الرجل؟
فأكثروا القول فيه.
فقال عبد الرحمن بن إسحاق - وكان قاضيا على الجانب الغربي فعزل وكان موادا لأحمد بن نصر قبل ذلك -: يا أمير المؤمنين هو حلال الدم.
وقال أبو عبد الله الأرمني صاحب أحمد بن أبي داؤد: اسقني دمه يا أمير المؤمنين.
فقال الواثق: لابد أن يأتي ما تريد.
وقال ابن أبي دؤاد: هو كافر يستتاب لعل به عاهة أو نقص عقل.
فقال الواثق: إذا رأيتموني قمت إليه فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي.
ثم نهض إليه بالصمصامة - وقد كانت سيفا لعمرو بن معديكرب الزبيدي أهديت لموسى الهادي في أيام خلافته وكانت صفيحة مسحورة في أسفلها مسمورة بمسامير - فلما انتهى إليه ضربه بها على عاتقه وهو مربوط بحبل قد أوقف على نطع، ثم ضربه أخرى على رأسه ثم طعنه بالصمصامة في بطنه فسقط صريعا رحمه الله على النطع ميتا، فإنا لله وإنا إليه راجعون. رحمه الله وعفا عنه.
ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه فضرب عنقه وحز رأسه وحمل معترضا حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك الخرَّمي فصلب فيها، وفي رجليه زوج قيود وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أياما، وفي الغربي أياما، وعنده الحرس في الليل والنهار.
وفي أذنه رقعة مكتوب فيها: هذا رأس الكافر المشرك الضال أحمد بن نصر الخزاعي، ممن قتل على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن، ونفى التشبيه وعرض عليه التوبة ومكنه من الرجوع إلى الحق فأبى إلا المعاندة والتصريح، فالحمد لله الذي عجله إلى ناره وأليم عقابه بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه ولعنه.
ثم أمر الواثق بتتبع رؤوس أصحابه فأخذ منهم نحوا من تسع وعشرين رجلا فأودعوا في السجون وسموا: الظلمة، ومنعوا أن يزورهم أحد وقيدوا بالحديد، ولم يجر عليهم شيء من الأرزاق التي كانت تجري على المحبوسين، وهذا ظلم عظيم.
وقد كان أحمد بن نصر هذا من أكابر العلماء العاملين القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وسمع الحديث من: حماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، وهاشم بن بشير، وكانت عنده مصنفاته كلها.
وسمع من الإمام مالك بن أنس أحاديث جيدة، ولم يحدث بكثير من حديثه.
وحدث عنه: أحمد بن إبراهيم الدورقي، وأخوه يعقوب بن إبراهيم، ويحيى بن معين، وذكره يوما فترحم عليه وقال: قد ختم الله له بالشهادة، وكان لا يحدث ويقول إني لست أهلا لذلك.
وأحسن يحيى بن معين الثناء عليه جدا.
وذكره الإمام أحمد بن حنبل يوما فقال: رحمه الله ما كان أسخاه بنفسه لله، لقد جاد بنفسه له.
وقال جعفر بن محمد الصائغ: بصرت عيناي وإلا فقئتا وسمعت أذناي وإلا فصمتا أحمد بن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه: لا إله إلا الله.
وقد سمعه بعض الناس وهو مصلوب على الجذع ورأسه يقرأ: { الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } [العنكبوت: 1-2] .
قال: فاقشعر جلدي.
ورآه بعضهم في النوم فقال له: ما فعل بك ربك؟
فقال: ما كانت إلا غفوة حتى لقيت الله عز وجل فضحك إلي.
ورأى بعضهم رسول الله ﷺفي المنام ومعه أبو بكر وعمر قد مروا على الجذع الذي عليه رأس أحمد بن نصر، فلما جاوزوه أعرض رسول الله ﷺبوجهه الكريم عنه فقيل له: يا رسول الله مالك أعرضت عن أحمد بن نصر؟
فقال: «أعرضت عنه استحياء منه حين قتله رجل يزعم أنه من أهل بيتي».
ولم يزل رأسه منصوبا من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان من هذه السنة - أعني: سنة إحدى وثلاثين ومائتين - إلى بعد عيد الفطر بيوم أو يومين من سنة سبع وثلاثين ومائتين، فجمع بين رأسه وجثته ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية رحمه الله.
وذلك بأمر المتوكل على الله الذي ولي الخلافة بعد أخيه الواثق، وقد دخل عبد العزيز بن يحيى الكتاني - صاحب كتاب الحيدة - على المتوكل وكان من خيار الخلفاء لأنه أحسن الصنيع لأهل السنة، بخلاف أخيه الواثق وأبيه المعتصم وعمه المأمون، فإنهم أساؤوا إلى أهل السنة وقربوا أهل البدع والضلال من المعتزلة وغيرهم.
فأمره أن ينزل جثة أحمد بن نصر ويدفنه ففعل، وقد كان المتوكل يكرم الإمام أحمد بن حنبل إكراما زائدا جدا كما سيأتي بيانه في موضعه.
والمقصود أن عبد العزيز صاحب كتاب الحيدة قال للمتوكل: يا أمير المؤمنين ما رأيت أو ما رئي أعجب من أمر الواثق، قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن.
فوجل المتوكل من كلامه وساءه ما سمع في أخيه الواثق، فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات قال له المتوكل: في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر.
فقال: يا أمير المؤمنين ! أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرا.
ودخل عليه هرثمة فقال له في ذلك فقال: قطعني الله إربا إربا إن قتله إلا كافرا.
ودخل عليه القاضي أحمد بن أبي داؤد فقال له مثل ذلك فقال: ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافرا.
قال المتوكل: فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار.
وأما هرثمة فانه هرب فاجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل من الحي فقال: يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه، فقطعوه إربا إربا.
وأما ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده - يعني: بالفالج - ضربه الله قبل موته بأربع سنين، وصودر من صلب ماله بمال جزيل جدا كما سيأتي بيانه في موضعه.
وروى أبو داود في كتاب المسائل، عن أحمد بن إبراهيم الدورقي، عن أحمد بن نصر، قال: سألت سفيان بن عيينة: «القلوب بين إصبعين من أصابع الله، وإن الله يضحك ممن يذكره في الأسواق».
فقال: اروها كما جاءت بلا كيف.
وفيها: أراد الواثق أن يحج واستعد فذكر له أن الماء بالطريق قليل فترك الحج عامئذ.
وفيها: تولى جعفر بن دينار نائب اليمن فسار إليها في أربعة آلاف فارس.
وفيها: عدا قوم من العامة على بيت المال فأخذوا منه شيئا من الذهب والفضة، فأخذوا وسجنوا.
وفيها: ظهر خارجي ببلاد ربيعة فقاتله نائب الموصل فكسره وانهزم أصحابه.
وفيها: قدم وصيف الخادم بجماعة من الأكراد نحو من خمسمائة في القيود، كانوا قد أفسدوا في الطرقات وقطعوها، فأطلق الخليفة لوصيف الخادم خمسة وسبعين ألف دينار، وخلع عليه.
وفيها قدم خاقان الخادم من بلاد الروم وقد تم الصلح والمفاداة بينه وبين الروم، وقدم معه جماعة من رؤوس الثغور، فأمر الواثق بامتحانهم بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فأجابوا إلا أربعة فأمر بضرب أعناقهم إن لم يجيبوا بالقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة.
وأمر الواثق أيضا بامتحان الأسارى الذين فودوا من أسر الفرنج بالقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فودى وإلا ترك في أيدي الكفار، وهذه بدعة صلعاء شنعاء عمياء صماء لا مستند لها من كتاب ولا سنة ولا عقل صحيح، بل الكتاب والسنة والعقل الصحيح بخلافهما كما هو مقرر في موضعه. وبالله المستعان.
وكان وقوع المفاداة عند نهر يقال له: اللامس، عند سلوقية بالقرب من طرسوس، بدل كل مسلم أو مسلمة في أيدي الروم أو ذمي أو ذمية كان تحت عقد المسلمين أسير من الروم كان بأيدي المسلمين ممن لم يسلم، فنصبوا جسرين على النهر فإذا أرسل الروم مسلما أو مسلمة في جسرهم فانتهى إلى المسلمين كبر وكبر المسلمون، ثم يرسل المسلمون أسيرا من الروم على جسرهم فإذا انتهى إليهم تكلم بكلام يشبه التكبير أيضا.
ولم يزالوا كذلك مدة أربعة أيام بدل كل نفس نفس، ثم بقي مع خاقان جماعة من الروم الأسارى فأطلقهم للروم حتى يكون له الفضل عليهم.