مات الخليفة الواثق بالله ابن الخليفة المعتصم فى سنة 232 هجرية، فما الذي جرى فى هذه السنة من أحداث وكيف كان رحيل الخليفة، وما الذي يقوله التراث الإسلامي؟
يقول كتاب البداية والنهاية للحافظ بن كثير تحت عنوان "ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين ومائتين":
فيها: عاثت قبيلة يقال لها: بنو نمير باليمامة فسادا فكتب الواثق إلى بغا الكبير وهو مقيم بأرض الحجاز فحاربهم فقتل منهم جماعة وأسر منهم آخرين، وهزم بقيتهم، ثم التقى مع بني تميم وهو في ألفي فارس وهم ثلاثة آلاف، فجرت بينهم حروب ثم كان الظفر له عليهم آخرا، وذلك في النصف من جمادى الآخرة.
ثم عاد بعد ذلك إلى بغداد ومعهم من أعيان رؤوسهم في القيود والأسر جماعة، وقد فقد من أعيانهم في الوقائع ما ينيف على ألفي رجل من بني سليم ونمير ومرة وكلاب وفزارة وثعلبة وطي وتميم وغيرهم.
وفي هذه السنة أصاب الحجيج في رجوعهم عطش شديد حتى بيعت الشربة بالدنانير الكثيرة، ومات خلق كثير من العطش.
وفيها: أمر الواثق بترك جباية أعشار سفن البحر.
وفيها: كانت وفاة الخليفة الواثق بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد أبي جعفر هارون الواثق.
كان هلاكه في ذي الحجة من هذه السنة بعلة الاستسقاء، فلم يقدر على حضور العيد عامئذ، فاستناب في الصلاة بالناس قاضيه أحمد بن أبي داؤد الإيادي المعتزلي.
توفي لست بقين من ذي الحجة، وذلك أنه قوي به الاستسقاء فأقعد في تنور قد أحمي له بحيث يمكنه الجلوس فيه ليسكن وجعه، فلان عليه بعض الشيء اليسير، فلما كان من الغد أمر بأن يحمّى أكثر من العادة فأجلس فيه ثم أخرج فوضع في محفة فحمل فيها وحوله أمراؤه و وزراؤه وقاضيه، فمات وهو محمول فيها، فما شعروا حتى سقط جبينه على المحفة وهو ميت، فغمض القاضي عينيه بعد سقوط جبينه، وولي غسله والصلاة عليه ودفنه في قصر الهادي، عليهما من الله ما يستحقانه.
وكان أبيض اللون مشربا حمرةً جميل المنظر خبيث القلب حسن الجسم سيء الطوية، قاتم العين اليسرى، فيها نكتة بيضاء، وكان مولده سنة ست وتسعين ومائة بطريق مكة، فمات وهو ابن ست وثلاثين سنة، ومدة خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام.
وقيل: سبعة أيام وثنتي عشرة ساعة.
فهكذا أيام أهل الظلم والفساد والبدع قليلة قصيرة.
وقد جمع الواثق أصحاب النجوم في زمانه حين اشتدت علته، وإنما اشتدت بعد قتله أحمد بن نصر الخزاعي ليلحقه إلى بين يدي الله، فلما جمعهم أمرهم أن ينظروا في مولده وما تقتضيه صناعة النجوم كم تدوم أيام دولته.
فاجتمع عنده من رؤوسهم جماعة منهم: الحسن بن سهل، والفضل ابن إسحاق الهاشمي، وإسماعيل بن نوبخت.
ومحمد بن موسى الخوارزمي المجوسي القطربلي، وسند صاحب محمد بن الهيثم، وعامة من ينظر في النجوم، فنظروا في مولده وما يقتضيه الحال عندهم فأجمعوا على أنه يعيش في الخلافة دهرا طويلا، وقدروا له خمسين سنة مستقبلة من يوم نظروا نظر من لم يبصر، فإنه لم يعش بعد قولهم وتقديرهم إلا عشرة أيام حتى هلك.
ذكره الإمام أبو جعفر بن جرير الطبرى رحمه الله.
قال ابن جرير: وذكر الحسين بن الضحاك أنه شهد الواثق بعد أن مات المعتصم بأيام وقد قعد مجلسا كان أول مجلس قعده، وكان أول ما غنى به في ذلك المجلس أن غنته شارية جارية إبراهيم بن المهدي:
ما درى الحاملون يوم استقلوا * نعشه للثواء أم للقاء
فيلقل فيك باكياتك ماشئـ *ن صياحا في وقت كل مساء
قال: فبكى وبكينا حتى شغلنا البكاء عن جميع ما كنا فيه.
ثم اندفع بعضهم يغنى:
ودّع هريرة إن الركب مرتحل * وهل تطيق وداعا أيها الرجل
فازداد بكاؤه وقال: ما سمعت كاليوم قط تعزية بأب وبغى نفس، ثم أرفض ذلك المجلس.
وروى الخطيب أن دعبل بن علي الشاعر لما تولى الواثق عمد إلى طومار فكتب فيه أبيات شعر ثم جاء إلى الحاجب فدفعه إليه وقال: اقرأ أمير المؤمنين السلام وقل: هذه أبيات امتدحك بها دعبل فلما فضّها الواثق إذا فيها:
الحمد لله لا صبر ولا جدل * ولا عزاء إذا أهل الهوى رقدوا
خليفةً مات لم يحزن له أحد * وآخر قام لم يفرح به أحد
فمر هذا ومر الشؤم يتبعه * وقام هذا فقام الويل
والنكد
قال: فتطلبه الواثق بكل ما يقدر عليه من الطلب
فلم يقدر عليه حتى مات الواثق.
وروي أيضا: أنه لما استخلف الواثق ابن أبي داود على الصلاة في يوم العيد ورجع إليه بعد أن قضاها قال له: كيف كان عيدكم يا أبا عبد الله؟ قال: كنا في نهار لا شمس فيه، فضحك وقال: يا أبا عبد الله أنا مؤيد بك.
قال الخطيب: وكان ابن أبي داؤد استولى على الواثق وحمله على التشديد في المحنة ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن.
قال ويقال: إن الواثق رجع عن ذلك قبل موته فأخبرني عبد الله ابن أبي الفتح أنبأ أحمد بن إبراهيم بن الحسن، ثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة، حدثني حامد بن العباس عن رجل عن المهدي: أن الواثق مات وقد تاب من القول بخلق القرآن.
وروي أن الواثق دخل عليه يوما مؤدبه فأكرمه إكراما كثيرا فقيل له في ذلك فقال: هذا أول من فتق لساني بذكر الله وأدناني برحمة الله.
وكتب إليه بعض الشعراء:
جذبت دواعي النفس عن طلب الغنى * وقلت لها عفي عن الطلب النزر
فإن أمير المؤمنين بكفه * مدار رحا الأرزاق دائبة تجري
فوقع له في رقعته جذبتك نفسك عن امتهانها، ودعتك إلى صونها فخذ ما طلبته هينا، وأجزل له العطاء.
ومن شعره قوله:
هي المقادير تجري في أعنتها * فأصبر فليس لها صبر على حال
ومن شعر الواثق قوله:
تنحّ عن القبيح ولا ترده *ومن أوليته حسنا فزده
ستكفى من عدوك كل كيد * إذا كاد العدو ولم تكده
وقال القاضي يحيى بن أكثم: ما أحسن أحد من خلفاء بني العباس إلى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق: ما مات وفيهم فقير.
ولما احتضر جعل يردد هذين البيتين:
الموت فيه جميع الخلق مشترك * لا سوقة منهم يبقى ولا ملك
ما ضر أهل قليل في تفاقرهم * وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا
ثم أمر بالبسط فطويت ثم ألصق خده بالأرض وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه.
وقال بعضهم: لما احتضر الواثق ونحن حوله غشي عليه فقال بعضنا لبعض: انظروا هل قضى؟
قال: فدنوت من بينهم إليه لأنظر هل هدأ نفسه، فأفاق فلحظ إلي بعينه فرجعت القهقري خوفا منه، فتعلقت قائمة سيفي بشيء فكدت أن أهلك، فما كان عن قريب حتى مات وأغلق عليه الباب الذي هو فيه وبقي فيه وحده واشتغلوا عن تجهيزه بالبيعة لأخيه جعفر المتوكل، وجلست أنا أحرس الباب فسمعت حركة من داخل البيت فدخلت فإذا جرذ قد أكل عينه التي لحظ إلي بها، وما كان حولها من الخدين.
وكانت وفاته بسر من رأى التي كان يسكنها في القصر الهاروني، في يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة من هذه السنة - أعني سنة ثنتين وثلاثين ومائتين - عن ست وثلاثين سنة، وقيل ثنتين وثلاثين سنة.
وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام، وقيل خمس سنين وشهران وأحد وعشرين يوما، وصلى عليه أخوه جعفر المتوكل على الله، والله أعلم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة