بين يوم المرأة العالمي ويوم المرأة المصرية وعيد الأم، تتعدد الاحتفالات بالنساء في شهر مارس، الذي يصفه الكثيرون بأنه "شهر المرأة"، وفي هذا التوقيت من كل عام، نحب كإعلاميين أو حتى مستخدمين لمواقع التواصل الاجتماعي، الاحتفاء بالنماذج النسائية ذات الإنجازات الكبيرة اللافتة للتذكير، والتأكيد على قدرة المرأة على التميز والتفوق، نستحضر قائمة طويلة للأسماء النسائية البارزة، بين الفائزات بنوبل وصاحبات الابتكارات العلمية التي غيرت شكل العالم، وصاحبات التاريخ النضالي الحافل، وغيرهن من الأسماء النسائية التي تستحق التذكر والتخليد بلا شك؛ ولكننا أمام هذه القصص المبهرة والنماذج المؤثرة قليلاً ما نتذكر ونحتفي بالمرأة المُلهمة الموجودة في كل بيت، صاحبة أثر الفراشة الذي قد لا تلاحظه لكنه يغير عالمك، ويغير العالم بالكامل بنعومة.
ربما بسبب السنوات الطويلة من التهميش للمرأة والتشكيك في قدرتها على مجابهة الرجال في مختلف المجالات، وحرمانها من التعليم ومن أبسط حقوقها الإنسانية، نتفهم الحرص على تسليط الضوء على هذا النوع من النجاحات، ولكننا نحتاج لأن نتذكر دائمًا أن ذلك التهميش والظلم لا ينبغي أبدًا أن يجعلنا نقع في الخطأ نفسه، ونهمش النساء اللائي اخترن شكلاً مغايرًا للنجاح وللحياة وفضلن ألا يكن من النساء العاملات، ففي محاولات البعض لمواجهة دعوات ساذجة تزعم أن منافسة النساء في سوق العمل مسئولة عن بطالة الرجال، وعن تدهور أحوال الأسر وتفككها، تأتي الردود أكثر سذاجة وتطرفًا وتتهم النساء غير العاملات بأنهن متخاذلات وضعيفات ولا يحققن أي إنجاز حقيقي وتعمم أحكامًا سطحية عليهن بالانفصال عن العالم والافتقاد للوعي والقدرة على الإنجاز.
في السنوات الأخيرة خرجت بعض النساء عن صمتهن، ودافعن عن خيارهن وقرارهن بعدم العمل، تحدثن مرارًا عن أن عدم التحاقهن بوظيفة لا يعني أن حياتهن ممتلئة بالفراغ، وأنهن لا يساهمن في المجتمع ولا يتعلمن ولا يكتسبن خبرات، ورغم سعادتي بأنهن تحدثن أخيرًا إلا أنه كان من المحزن أن ترى أحدًا مضطرًا للدفاع عن خيارته وشكل حياته وكأنه متهم! ومن المحزن أيضًا أن تشعر الآلاف من النساء بهذه الغصة وأن يشعرن بالتقصير والتشكيك في الذات وأحيانًا بالاكتئاب لمجرد أنهن لسن نساء عاملات، حتى أن استطلاعًا لمؤسسة جالوب الأمريكية عام 2012 وجد أن الأمهات غير العاملات أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب وللشعور بالغضب والحزن من نظرائهن العاملات. ومن بين أكثر من 60 ألف امرأة أمريكية مشاركة في الاستطلاع، كانت الأمهات غير العاملات من النادر أن يصفن أنفسهن بأنهن مزدهرات أو ابتسمن كثيرًا.
وحاول موقع "psycom" الذي نشر نتائج الاستطلاع تحليل الأسباب مستعينًا برأي متخصصين نفسيين، قالوا إن السبب قد يرجع إلى الإجهاد الزائد الذي تشعر به الأم غير العاملة، لأنها خلاف رعاية الأطفال والمهام المنزلية الأخرى، لا تتلقى على الأغلب مساعدة من شريك حياتها، لأنه يعمل بينما هي متفرغة للبيت، أشاروا كذلك إلى أن الأمهات غير العاملات يملن إلى الشعور بالعزلة وفقدان الهوية وفقدان التفاعل الاجتماعي كما يفتقدن الشعور بالإنجاز.
في العام الماضي، وبمناسبة اليوم العالمي للمرأة، نشرت المترجمة ضي رحمي جزءًا من قصيدة لروبي كور تناقش القضية نفسها:
عندما سألني الأطفال في المدرسة
عن مكان عمل أمي
كذبت، قلت في المصنع
مثل الأمهات الأخريات كلهن
خجلت من الاعتراف بأنها بلا "وظيفة حقيقية"
حتى وإن كانت "ربة منزل" تعني
مقدمة رعاية بدوام كامل
وسائقة
وطاهية
وسكرتيرة
ومدرسة
وعاملة نظافة
والصديقة الحميمة لأربعة أطفال
تعريف العالم لـ"وظيفة حقيقية" عاجز عن احتواء هذا كله.
وذيلت الترجمة بتعليق يقول إن ربات المنازل مناضلات أيضًا ويوم المرأة العالمي ليس حكرًا على المرأة العاملة فقط، وأن التفرغ للأمومة ورعاية الطفل والمنزل لا يحط من شأن النساء، تذكرت هذا المنشور بينما أرى الكاتب والصحفي مصطفى فتحي يحتفل بالطبعة الرابعة من كتابه "شال قطيفة" الذي يحمل عنوانًا فرعيًا يقول "ما أريد أن يعرفه العالم عن أمي"، والذي يرد بشكل عملي على كل هذا الجدل، رغم أنني أظن أنه لم يفكر وهو يكتبه في هذه القضية وهذا أجمل فقد كتبه في محاولة للتعافي من ألم فقد والدته عليها رحمة الله.
قال في مقدمة كتابه: "بعد وفاة أمي شعرت بغربة شديدة، اختبرت معنى الاكتئاب لأول مرة في حياتي، رفض كل من عقلي وقلبي الاعتراف بأن هذه السيدة العظيمة التي كانت سندًا حقيقيًا لي في هذه الحياة قد غادرت بالفعل دنياي، ولن أراها أو أسمع صوتها مرة أخرى".
جاء الكتاب بعد قراره ألا يستسلم لوحش الاكتئاب والحزن، وقرر أن يعرف العالم على أمه "رابحة"، السيدة الملهمة التي ولدت في قرية فقيرة تابعة لمحافظة سوهاج، وتركت أثرًا عظيمًا في كل من عرفوها، والأهم أخرجت للعالم أبناء ناجحين أسوياء، أحدهم حاصل على ماجستير في الصحافة الإلكترونية وزمالة من المركز الدولي للصحفيين بواشنطن وزار العديد من دول العالم، لكنه يرى أن ما تعلمه في مدرسة "رابحة" هو أعظم وأرقى الدروس التي تعلمها في حياته.
في الكتاب الدافئ الحميمي ستتعرف على شكل حقيقي لقوة المرأة الناعمة وصلابتها، زوجة وأمًا. وتلمح وجه عشرات الأمهات المصريات الملهمات. تتذكر أمك وجدتك وغيرهن من النساء اللائي يحققن إنجازات حقيقية دون الكثير من الضجيج ولا الزهو، وربما يعشن ويمتن دون أن يدرك أحد إلى أي درجة كان أثرهن عظيمًا في حياته.
إلى جانب الصدق واللغة العذبة والمحبة التي تفيض من بين السطور، ستشعر بنهاية الكتاب بالكثير من الامتنان إلى صاحب هذه التجربة لأنه سيوسع مفهومك عن الإنجازات التي تستحق التخليد.