من يعرف الكاتبة فاطمة خير وعملها الدؤوب في قضايا المرأة، يتوقع أن تتمحور روايتها الأدبية الأولى حول موضوع نسوي، لكن الكتابة في هذه الرواية هي فعل إنساني لا يتوقف عند حدود سمات بيولوجية، تحدد أن الكاتبة امرأة، بل إنسانة تسعى للتحرر من مساحتها الضيقة إلى أفق أرحب.. الكتابة هنا تعيد تشكيل الذات وتعكس أفكارًا تخص الكاتبة ونزعتها في التعامل مع العالم بالإشارات والعلامات، تبدو مشغولة بالسؤال الوجودي من أنا؟ .. إنها لا تجيب عنه مباشرة وتحاول أن تفلت من شَرَكِه وتتجنب فخاخه وتحولاته عند الحد الفاصل بين الخيال والواقع، حيث تجد البطلة نفسها فى رحلة طويلة نهايتها آمنة كما تأمل.. رحلة تذهب فبها للبحث عن حقيقتها وإعادة اكتشاف معانى الحياة.
رواية "العرافة" نص أنثوى، خليط بين المذكرات وأحلام اليقظة، والتحقيق النفسى، والعدو وراء معرفة الذات، وقد تتجلى هذه الذات فى حلم، فى إشارة، فى علامة تأتى مصادفة، لكن تبقى الرغبة الحارقة فى الإمساك بالروح وهى حرة، واكتشاف إمكاناتها.. الحالة حارة وصادقة، نتلمسها جيدًا بدءً من صورة الغلاف التي جاءت مناسبة لطرح المؤلفة داخل روايتها من خلال صورة لامرأة تتطلع في وجد وهُيام إلى النجوم، شعرها الأسود الطويل المنسدل كشعر الغجريات كما في المخيلة حر يملأ محيطها، تمسك بيدها عصفور هو واحد من أقوى العلامات والإشارات في رحلتها ويومياتها، وربما يكون دليلها الذي تهتدي به في هذه الرحلة.
كما أن الكاتبة اجتزأت في صفحة الغلاف الخلفية فقرة من داخل روايتها تعبر فيها عن حالتها المثيرة، وتفسر إلى حد ما هذا الالتباس الجميل بين الصورة والحقيقة، الصورة العابرة للزمن والحقيقة الكامنة في الجوهر، تقول بيقين قاطع وإن خالطته بعض الدهشة:" وأعرف أن الزمن لم يكن موجودًا، نعم.. أنا أؤمن بذلك، حين نشرب القهوة مع الأحباب.. لا زمن، ويا له من أمر!.
إن اختيار الكاتبة لعنوان (العرافة) تعبير يؤكد شغفها بالرغبة فى الاستبصار والبحث الدائم في حياة مليئة بالاحتياج.. العرافة هي الكلمة المحور التي بنيت عليها الحكاية لفظًا ومعنى، بها نسترشد وندرك الفكرة وندخل إلى عالم الكاتبة بانجذاب يتعاطى مع أبجديتها التي تلتقط تفاصيلها الخاصة وتضبط خلالها إيقاع الكتابة، بما يمنح المتلقي الفرصة للغوص والتأمل في مشهد ذهني ممتد على مدار الرواية الصغيرة.. نعم إنها صغيرة، لكنها ومضة سريعة، مكثفة، تختصر مشوارًا يعبر الزمن ويتجاوز هوسه، كما لو كانت تفك شفرته ورموزه بعلامات الطريق، ولعل هذا ما يوضحه الإهداء:"إلى العلامات.. والطريق".
العلامات التي تتبعها الكاتبة سواء كانت في ابتسامة تبشرها وتهون عليها جنون الطريق، أو عصفور ينظر في عينيها ويقودها إلى طمأنينة تفتش عنها، أو غجرية تراها في أحلامها، والأحلام هنا علامة أخرى تعمق يقينها الراسخ بالإشارات، أما الغجرية فإنها تتسيد أحلامها تقول الكاتبة: جاءتني في منامٍ لم أجربه منذ سنوات، ترقص فوق لوحة الإعلانات، تُخفي شخوص الإعلان وتقف محلهم، تشير بيديها إليَّ :"كن حرًا..الآن"، ثم ترقص فوق اللوحة الضخمة، مَن هذهِ المرأة المجنونة؟ وكانت المرة الأولى التي أراها فيها، لكنها لم تكن الأخيرة.
هذا غير علاقتها بسيارتها:"من منا يملك الوقت ليخبر سيارة بحبه؟"، وعلاقتها بمذياعها:"أحب مذياعي وهو لم يتعطل أبدا رغم أنه تهالك، لقد تحملني كثيرا، رافقني أكثر من أصدقاء مقربين"، وعلاقتها المتناغمة بأمها:"الحب يوجع قلبي يا أمي"، تقولها وهي تتمنى لو أن الأم تمنحها جزءً من طمأنينتها تجاه الحياة.
الحيرة الوجودية تطالعنا منذ السطور الأولى للمرأة التي شارفت على أربعينيتها وتتباهى ببراعتها في خلق حياة اعتيادية تأنس بها، لكنها تكتشف فجأة أنها وحيدة: "وحيدة يا لوقع الكلمة! .. وحيدة، لا مجال للهرب من مواجهة الحقيقة".
"أخبرتني العرافة أنني لا أعرف نفسي.. ضحكت منها، وسخرت، في الحقيقة أنا أعرف نفسي جيدًا، لكنني أريد أن أعرفها أكثر، رغم ذلك لم أجادلها: لا فائدة من جدال العرافين، أنا أعرف العرافين وأستمتع بالحديث معهم، يأخذونني إلى عوالم أخرى"، بهذا المقطع التي استهلت به فاطمة خير روايتها، تلخص عالمها المتخيل الذي تنهيه بعد رحلتها الطويلة برقصة جامحة تليق بغجرية، تكتشف خلالها أن الغجرية التي تبعتها لم تكن إلا هي: صورتها وجوهرها.. فكرة حاوطتها وربما أسهمت في مساعدتها حتى لا تكون ترسًا في طاحونة طحينها ليس لها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة