في المشاهد التقليدية لذاكرة السينما المصرية أو حتى تلك التي نراها في الواقع اليومي، نجد دائما شخصية "المعلم" بفتح الميم، كما تم تنميطها على مدار سنوات وعقود، تتمثل في ذلك الرجل الضخم الذي يجلس على أكبر كرسي في المقهى، خلف صورة لأبيه أو جده، ويده لا تترك "الشيشة"، ويتبارى الجميع في خدمته، وطلباته أوامر، فالكل يراقب نظراته الحائرة أحياناً، والغاضبة أحياناً أخرى، فهكذا عرفنا الصورة وعاصرناها، لكن شباب هذا الجيل لهم رأي مختلف وأفكار أكثر اختلافاً، جعلت بيئة العمل أكثر تطوراً.
الشركات الناشئة واحدة من أهم المجالات التي ذاع صيتها خلال السنوات الماضية، باعتبارها تطور طبيعي للبيزنس التقليدي وعلاقات العمل المتعارف عليها، التي كانت تلتزم بمجالات محددة وهيكل وظيفي وإداري معروف، بينما في تلك الشركات الجديدة لا يمكن أن تفرق بين صاحب العمل ومن يعملون معه، فقد تجد الأول يقوم بدور "الكاشير" أو يقدم بنفسه الطلبات للزبائن ويمضي في العمل ساعات تزيد عن كل من معه من الموظفين، من أجل تحقيق نتائج سريعة، ودورة رأس مال أكثر تطوراً، لذلك تعتبر الشركات الناشئة مجالات مناسبة تماماً لتنمية رؤوس الأموال، وفرصة حقيقية للشباب تمنحهم القوة في مواجهة شبح البطالة.
"حبيبة" ليست أكثر من فتاة لم يتجاوز عمرها 25 عاماً، لكنها قررت أن تبدأ مشروعها الخاص في أحد شوارع مصر الجديدة، من خلال إنشاء "كافيه" يقدم المخبوزات والمشروبات الساخنة، مع العلم أن مجال دراستها الأساسي السينما والإخراج في الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها تعاونت مع مجموعة من الأقارب والأصدقاء لتبدأ مشروع مختلف بعد دراسة كل أبعاده وتكاليفه، ثم اختارت فريق العمل، وفق معايير تحكمها الخبرة والكفاءة، وبدأت مشروعاً يعتمد كلياً على سواعد الشباب، وفوجئت بنفسي خلال وجودي بالمصادفة بمنطقة مصر الجديدة، لأجد حبيبة تقدم بنفسها المشروبات للزبائن، وما إن عرفت أني ضيف جديد سارعت في تعريف نفسها، ودورة العمل في المكان، والمنتجات التي تقدمها، وأهم مميزاتها، وحينها فوجئت أنها صاحبة المشروع، فقلت لها:" لماذا تعملين وأنت مديرة هذا المكان؟" لترد سريعاً:" أعمل هنا مثل كل الموظفين الموجودين، مرة أقدم الطلبات، وأخرى أعمل "كاشير" وأحيانا أدخل المطبخ لمعاونة الشيف المسئول عن المخبوزات"، وهنا ترسخت عندي نظرة جديدة لشباب مصر، الذي يفكر بطريقة مختلفة، وبدأ يتخلص من الأفكار التقليدية القديمة ومفاهيم الإدارة البالية التي تأخرنا بسببها سنوات وسنوات.
"أنت لا تفشل أبداً إلى أن تتوقف عن المحاولة" ألبرت أينشتاين، عالم الفيزياء الأمريكي الشهير صاحب نظرية النسبية، لذلك يحرص أصحاب الشركات الناشئة على تطوير أدواتهم وخلق حلول لكل ما يواجهون من مشكلات بمرونة كبيرة، ويتبنون أخلاق عمل إيجابية، ويلتزمون دائماً بفكرة أن العميل أو الزبون هو محور الاهتمام الأساسي من الجميع، وأهم أصل من أصول الشركة أو المؤسسة، ومؤشرات رضاه وتقييمه للمنتج أحد أهم معايير النجاح، لذلك تحرص هذه الشركات على تقديم خدمات ما بعد البيع والبحث المستمر في الوصول إلى أذواق المستهلكين المختلفة، لضمان كسب ولائهم، لذلك أهم ما يميز الشركات الناشئة والمشروعات الشبابية الجديدة التي بدأت في مصر بسواعد الشباب أنها لا تتوقف أبداً عن المحاولة في سبيل الوصول إلى اهتمامات المستهلك.
"حبيبة" ومن معها من الشباب ليسوا أكثر من نموذج على المحاولات المهمة والملهمة لآلاف الشباب في مصر خلال الوقت الراهن، الذين بدأوا أفكاراً إيجابية لها مردود اقتصادي مهم، ولها دور أساسي في مواجهة البطالة وخلق فرص عمل، إلى جانب اهتمامهم بمعايير تتميز بالصدق والشفافية والأمانة ونوع جديد من ثقافة العمل لا يعتمد على الفهلوة والحداقة والمفهومية المزيفة كما كان سائداً لسنوات طويلة، لكنه يعتمد على الثقة المتبادلة مع العملاء وتأسيس علاقات ولاء قوية مع المستهلك، وأتصور أن هذا المجال من الأعمال سوف يسيطر على مناخ الاستثمار في مصر خلال الفترة المقبلة، وسينتشر بقوة خلال سنوات معدودة، خاصة أن المستهلك يبحث دائماً عن خدمة عصرية محترفة بمعايير جودة متطورة، لذلك أتصور أن مجال الشركات الناشئة في مصر والمشروعات الصغيرة والمتوسطة والأفكار الشبابية الجذابة سوف تقود هذا البلد في سنوات قليلة إلى نقلة اقتصادية كبيرة، وأظن أن الحكومة تحاول بكل الطرق التخلص من القيود البيروقراطية والروتين والإجراءات المعقدة، التي كانت تؤثر على مناخ الاستثمار وجذب رؤوس الأموال الجديدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة