ليس مطلوبًا منك وأنت تُعد عملا دراميًّا أن تُحب شخصياتك أو تكرهها، ولا أن تُوحى بمشاعرك للمُتلقّين، ما تفرضه الصنعة أن تستوعبها وتتفهّم دوافعها وتتركها تُعبّر عن ذواتها وتنتزع مكانها المناسب فى القلوب، ومُنتهى التوفيق أن يبدو العالم طبيعيًّا دون أن يُفلت من يدك، وتتضاعف المسؤولية إذا كانت الدراما لعبة ذهنيّة وبناءً من الرموز والتقابلات الفكرية، أكثر من كونها شخوصّا مقصودة لذاتها وقضيّتها أو للتسلية ومُتعة الحكى!
مسلسل «عملة نادرة» 2023 يستعير عباءة اجتماعية تُوحى بالبساطة بينما تُخبّئ صراعًا فكريًّا، تبدو الشخصيات من لحمٍ ودم فى أغلب الأحيان، لكن كأنها تتحرّك فى بيئة معمليّة مُعقّمة ومعزولة عن العالم.. أراد العمل أن يستكشف قوانين النفس البشرية داخل منظومة رجعية مُغلقة، وأن يُؤسِّس لموقف ثقافى وتنويرى أعمق من بيئة الحكاية وأطرافها المُباشرين.
يسعى البناء الدرامى إلى صناعة أُمثولة رمزية، تُجرّد البشر والصراعات إلى صيغة شبه رياضية، كأنها تقول إن أيّة معادلة فى هذا المكان والزمان، بهذه الأفكار والمعتقدات، ستُفضى حتمًا إلى النتيجة نفسها.. تبدأ الرمزية من الأسماء: عائلة «عبدالجبار» مقابل عائلة «أبو عصاية» بما يحمله ذلك من دلالة الغطرسة والعنف ومنطق القوة، «نادرة» بوصفها رمزًا لنُدرة الموقف أو نُدرة النموذج، «أُنس» مساحة الطمأنينة الشحيحة والعاجزة وسط سياق من القلق والتوتر، «عبيدة» بما يخلعه الاسم على الصحفى المتواضع اجتماعيًّا من تصوّرات تخص سادة النجع واستعبادهم للعوام، والخيّاطة المسيحية «دميانة» باستعارة اسم قديسة شهيرة فى دلالة تترافق فيها المعاناة مع بذل النفس فى خدمة الآخرين، واسم «عُملة نادرة» نفسه يُمكن قراءته «عَملة نادرة» من زاوية أنه يقصد موقف شخصية نادرة، أو أن العَملة نفسها نادرة ولا تتكرّر، وعلى هذا المنوال تسير الحكاية فى بناء عالمها وإدارة أحداثها داخل فضاء محكوم بعلامات رمزية ودلالات شبه مُغلقة.
يتوزّع فضاء الحكاية بطريقة هندسية، فالنجع تقتسمه عائلتان تتنافسان فى المصالح، وكلاهما تعمل لصالح شخص نافذ جرى تعريفه بـ«الباشا»، ولكل منهما ظهير من مطاريد الجبل، ويتقابل البيتان على ضفتين يفصلهما مجرى مائى، تبدو الصياغة البصرية كأن جناحى النجع صورة واحدة تنعكس فى مرآة، وهما وفق هذه التقابلات أقرب إلى التطابق وإن حاولت الدراما الإيحاء بالصراع، التنافس هنا ليس بين خير وشر، أو صواب وخطأ، وإنما على الهيمنة وقيادة اللعبة بالقوانين نفسها!
تبدو المُعالجة كما لو أنها تُؤسِّس لعالم من «الدستوبيا» بما تحمله من فانتازيا ومبالغة وهلع.. يخفت صوت الخير بينما يحضر الشر فى صورته المطلقة، تجاوره ملامح الفقر والعجز والانحراف وخواء الروح، ولا يتجاوز الضبط العقائدى حدود التصوّف المظهرى للابن الأصغر «علاء» أو العلاقة السطحية المصبوغة بإنسانية سريعة التبخُّر مع الشيخ «المنزلاوى»، صحيح أن القصة تستند إلى قضية اجتماعية شائعة تخص معضلة ميراث الأنثى فى الصعيد، لكنها من رحم الاشتباك المباشر والمفهوم تستدعى كل الشرور: الغيرة والحسد والحقد والثأر والطمع والدم والتجبُّر والتطرّف وقتل الأخ وتجارة السلاح والآثار، وكل ما يمكن تلخيصه من أزمات النفس البشرية وأمراضها.. يبدأ الموضوع اجتماعيًّا بسيطًا ثم يتّسع ليصبح سؤالاً وجوديًّا تُغطّيه بِنية رمزية بملامح واقعية، تُتيح للحكاية الأصلية أن تنمو وتستكشف صراعها وعُقدتها، لكنها تسعى فى الوقت نفسه إلى تعرية عالمها بكامله وإخضاعه للمحاكمة، قد يبدو الأمر صيغة للتطهُّر بالمنطق «الأرسطى»، أو تكرارًا دراميًّا لحكمة أن فساد النفس البشرية منبع كل الشرور.. فى كل الأحوال ستُفضى تلك البنية إلى قصاصٍ عام وشامل يُحقّق التطهير أو يُعيد الأرض إلى براءتها الأولى، بالثأر لها من كل النفوس التى أصابها العطب!
لا يُراهن السيناريو على الإيهام الكامل، إذ لا يتوقّف عن تخليق صدمات تمسّ نزاهة مخازن القيم من شخصيات إيجابية أو أقل تلوّثًا.. بهذا المنطق يتحوّل «عصام» فى عين «أُنس» رغم سنوات المحبّة، ونكتشف أن قصة «نادرة مع بلال» قد لا تكون بريئة تمامًا بالنظر إلى أن الممرضة الشابة تحمل ثأرًا قديمًا لوالدها، ثم زواجها من كبير المطاريد باعتباره تخلّيًا عن الإخلاص للزوج الراحل واحتماءً بالسلاح الفاسد خارج القانون.. كل النماذج - حتى فى أشدّ حالات البراءة والضعف - تبدو مُلوّثة بدرجة من الدرجات، كما يليق بـ«دستوبيا» منسوجة بخيوط من الرموز بكل ما فيها من قَصد وذهنيّة وسَيرٍ محتوم إلى مصير سابق الإعداد.
لم تنحرف الصورة عن التأسيس السابق، إذ تبدو قاتمة وسوداوية. بصريًّا جرى ترشيد مصادر الضوء فى المشاهد الداخلية للمدى الأقصى، إيحاءً بالحالة المُقبضة التى تُنتجها الشخصيات وتعيشها، وحتى مشاهد النهار قدّمت صورة باهتة لا يبدو نهرها صافيًا ولا شجرها شجرًا، بينما تُضىء الكادرات وتنتعش الألوان خارج النجع، بل تتغيّر ملامح الشخصيات وحالاتهم النفسية، وبينما تزدهر كل المشاعر السلبية فى حضن «الدستوبيا» لا يتنفس الحب إلا خارجها، هكذا بدأت قصة نادرة مع بلال فى الأقصر، واستمرت علاقتها مع أخيها، ووُلدت وعاشت محبّة عصام وأُنس فى الخارج لكنها ماتت حينما عرفها النجع، كل طُرق الدراما تقود إلى التنميط، انطلاقًا من الإخلاص للرمز، ومحاولة تجريد عالم الحكاية ليُصبح قانونًا عامًا يحكم ويُفسّر تعقيدات الثقافة والاجتماع ونفوس البشر!
لعب التمثيل دورًا مهمًّا فى تخليص الدراما من جفاف النمذجة، وكساء الرموز الظاهرة لحمًا ودمًا يُضفى على المباراة الفكرية غلافًا واقعيًّا.. أجادت نيللى كريم فى أحد أهم وأصعب أدوارها رغم مُبالغات بسيطة أو بعض فقدان للإيقاع، وتفوّق أحمد فهيم وأحمد عيد وفريدة سيف النصر، وقدّم محمد لطفى وجومانة مراد وكمال أبو رية أداء مُقنعًا وإن بدا منفصلاً عن الشخصية أحيانًا. جاء السيناريو جيّدًا ومحبوكًا بتوازن جادٍ بين الذهنيّة والطبيعية، سمحت بتجاور الحكاية الاجتماعية مع الرموز دون تنافر، لكن كان الحضور الأبرز للمُخرج محمد العدل بما أبداه من اقتدار واضح فى بناء عالمه وإدارته بميزان دقيق، سمح بنمو القصة فى مسار لا يفتقد المُتعة، وقدّم طرحه الفكرى وأسئلته الوجودية دون خطابيّة أو تبسيط كان يُمكن أن يُحوّل المأساة إلى ملهاة، على الأقل من زاوية الخفّة والتسطيح.. إجمالاً نجح العمل فى ابتكار توازنه الحساس بين التسلية والتساؤل، وقدّم مُعالجة رمزية تتنفس وتمشى على قدمين، وسجّل ملاحظاته على الواقع بمكياج «دستوبى» دون أن يكرهه أو ينتقم منه، والرهان أنه إذا لم يتحقّق التطهير فالوصم يكفى، وأن تعرية نفوس البشر واستكشاف تشابك أمراضها ومطامعها خطوة مهمة على طريق العلاج!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة