الحكايات الممتعة تبدأ دائما بالماضى، هكذا دخلنا عالم الحواديت من بوابة «كان ياما كان»، فالإنسان بطبعه نهم للمعرفة، والغائب عنه أكثر إغراءً له من المتاح، وإذا كان عسيرا علينا استراق السمع والبصر للمستقبل؛ فإن التاريخ قد يكون فى المُتناول، وبينما يهتم التأريخ الرسمى بالحكايات الكُبرى وقصص السادة والطبقات المهيمنة، فإن التاريخ الشعبى يحفل بأبطاله العاديين، ولا يفتح أبوابه لقائد أو حاكم إلا بقدر تقاطعه مع قصة بطله الشعبى أو خدمته لمساره الدرامى نحو الأسطورة أو التراجيديا. الروايات الشعبية أكثر ذكاء من الرواية الرسمية، وأكثر إمتاعا أيضا.
من هذا المدخل يأتى مسلسل «سوق الكانتو» ضمن دراما رمضان 2023. إذ يعود نحو مائة سنة تقريبا ليُقدّم صيغته البطولية بمكوناتها الشعبية، وبكل ما فيها من نزق وسيولة وتضارب فى القيم، مستعيرا تلك المساحة الزمنية منصّة لتقديم حكايته المقصودة لذاتها، باعتبارها فُرجة وتسلية ولُعبة فنية وجمالية فى المقام الأول، صحيح أنها لن تخلو من رسالة وانحياز، لكن هذا ليس المقصود فى ذاته!
يبدو التناغم حاضرا بقوة فى «سوق الكانتو»، المسلسل ثالث تجارب المؤلف هانى سرحان مع المخرج حسين المنباوى، والثانية فى سكّة العودة للماضى واللعب على التأريخ الاجتماعى والشعبى، بعد «الفتوة» فى موسم 2020، وبالمثل عمل كثيرون من عناصر التجربة وخاضوا جولات مُشابهة معًا.
يُمكن القول إن الحكاية ترصد تفاصيل الحيّز الفسيح فى مصر قبل قرن، بتنوّعها الاجتماعى والثقافى، بانفتاحها الفنى والإبداعى، بهويّتها الثرية والمرتبكة بين طبيعة احتوائية للآخر عبر هضم الوافدين من عشرات الجنسيات، ونزوح تحت أغلال احتلال يُثير طاقة كُره مُقدّسة للآخر المُعتدى، أى أنه يتتبّع الشخصية المصرية فى حركتها المُختلطة بهوية كوزموبوليتانية مُنفتحة، ملتمسًا قدر التحوّلات الاجتماعية والثقافية بالإحالة إلى الراهن والمقارنة به، أو أنه يستعير المرحلة الزمنية ليُمارس فيها قدرا من الحنين، خاصة أن الحوار يبدو عصريا ويبتعد بوضوح عن زمن الدراما، تحتمل الحكاية وتدفّقها الأمرين، لكنها تظل مُخلصة لمنطق الفُرجة أكثر من أى شىء آخر!
لا يستهدف المسلسل رواية تاريخ السوق، ولا حتى القاهرة أو مصر بكاملها فى تلك الحقبة على وجه منهجى، وإنما يقوم الرهان بكامله على الاقتراب من التاريخ الشعبى، وتوظيف مفاتيح المرحلة فى إنتاج مُعالجة درامية تُحقّق المُتعة والتسلية، وتتوافر فيها عناصر المُغايرة والاختلاف عن المطروح، لهذا لم يحفل كثيرا بنسب الأحداث إلى مرجعيات زمنية منضبطة، ولا رصد هوية السوق ومكانه على وجه التحديد، ولا الاقتراب من التاريخ السياسى والقصر والحكومة والنبلاء، ولا من الاحتلال بوصفه قضية عضوية وسط صراع وتشابكات الحياة اليومية، وبالطبع فإنه لا يُغرق فى الواقعية على حساب الوصول إلى غاياته الجمالية ومنسوب التشويق والإمتاع المُستهدف من التجربة.
الصيغة السابقة تفرض شروطا واضحة على العمل، أولها الاقتراب من طبيعة المرحلة الزمنية وروحها، وأهمها الوصول إلى مُعادلة بصرية ودرامية جذّابة ومُقنعة للمتلقين الآن دون انفصال عن سياقها التاريخى. تحقّق ذلك بفهم وتعامل ذكيّين من فريق الديكور وهندسة المناظر، بانتقال سلس إلى قاهرة وإسكندرية أوائل القرن الماضى، وصولا إلى مستوى مُتقدّم من الانضباط البصرى والجمال المحسوب - بشكل رغم أنه يبدو متجاوزا الواقع إلا أنه لم يصطدم بالمنطق أو يمثل شرخا فى بنية الحكاية - وبالمثل عملت مُصممة الملابس مروة عبد السميع مُنطلقة من المرجعية الزمنية ومُخلصة لإنتاج صورة بالغة الإتقان، لا يبدو الأمر واضحًا بقوة فى ملابس التجار والفتوات أو الرجال بوجه عام، ربما لأن مساحة الإزاحة فى أشكال الجلابيب والبدلات ليست كبيرة قياسا إلى الزمن، وكان الأمر أوضح فى ملابس السيدات وتحديدا من الطبقة البرجوازية أو فى الملاهى والبارات، إجمالا يُمكن القول إن الأزياء كانت موفقة على معيار المناسبة الزمنية والإبهار العصرى، كأنها ملابس الماضى صُنعت بإتقان الحاضر!
الصورة واحدة من أبرز عناصر العمل ونقاط تميّزه، يهتم «المنباوى» للغاية بإنتاج صورة ثرية تستند إلى التعبير والإمتاع البصرى بالدرجة نفسها، وله بصمة فى التقطيع وبناء الكادرات وضبط علاقة الكتلة بالفراغ، سواء كانت كُتلاً ثابتة أو أجساد الممثلين أنفسهم، نجح الرهان بمعاونة مدير التصوير إسلام عبدالسميع الذى قدم مُعادلاً بصريًّا مُعبّرًا عن القاهرة قبل قرن، ومُقنعًا للمشاهد الآن، صحيح أن الإضاءة بدت أحيانًا أكثر سطوعًا لا سيما بعض المشاهد الداخلية والليلية، إلا أن الغالب على العمل إجادة توظيف الضوء، وتوليده من مصادر بسيطة ومُقنعة كالمشاعل مثلاً أو كومة أخشاب مُشتعلة فى ساحة السوق، لن تستشعر أى تناقض فى الصورة، ولن يختلّ إحساسك بانتمائها إلى زمن الحكاية، والأهم أنك لن تفقد استمتاعتك بتكويناتها وما فيها من جماليات.
شريط الصوت عنصر تميّز آخر، بين اعتماد على أصوات الشارع، أو موسيقى تغلب عليها الوتريات مُتنقّلة بين حالات رومانسية مخملية للبيانو أو تيمات شعبية تُناسب السوق وشخصياتها، يتراوح المسلسل بين هيئة واقعية، ورهانات تعبيرية وتأثيرية، وكان التمثيل موزّعًا على تلك المسارات فأغرقت شخصيات فى التقمص، وحافظت غيرها على مساحة انفصال ولعب مع الدور، بينما كان فريق آخر أقرب إلى الرموز أو التجريد القيمى، بين ملائكة وشياطين وأشرار وأخيار وأبطال وأنذال، ووصل الأمر إلى ملمح يقارب الكاريكاتورية أحيانًا كبعض حالات شخصية الضابط «يحيى أحمد»، بدا مُلفتًا أداء فتحى عبدالوهاب وعبد العزيز مخيون ومحمود البزاوى وضياء عبدالخالق وندى موسى ومها نصار، وإجمالا يُقدّم العمل طرحًا دراميًّا جديرًا بالمتابعة، يمسك بخيوط حكايته باقتدار ويتحرك معها بهدوء، دون أن يتخلى عن ثوابته الجمالية، أو إخلاصه للغاية الأساسية فى أن يكون فُرجة مُمتعة ومساحة للتسلية والحنين من زاوية نظر شعبية للتاريخ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة