الدراما التاريخية تحدٍّ كبير، ليس من زاوية التكلفة وصعوبة التنفيذ فقط، وإنما من مدخل نُدرة تفاصيل الحَكَايا وامتلاء أثوابها بالثقوب. التاريخ بطبعه انتقائى لا يُسجّل إلا المحطات اللامعة، لكن الدراما ثرثارة - نوعا ما - إذ تُحب التفاصيل ولا تكتمل إلا بها، من هنا تبرز المشقّة مع التصدى لتحقيق حكاية تاريخية دراميًّا!
تُوثّق كُتب التاريخ عن الأبطال والشخصيات البارزة ما يلفت الأنظار فى مسيرتهم، فإن كان سياسيًّا فالحكاية عن محطات الصعود والتراجع، وإن كان عسكريًّا فالمعارك والانتصارات أو الهزائم، وإن كان عالمًا أو فقيهًا فلن تحفل مُدوّنات التراث إلا بإنتاجه أو علاقته بالسلطة أو ما عاشه من مِحَن وابتلاءات؛ لكن السكك المفتوحة بين تلك المحطات والمعارك لا يُدوّنها المؤرخون ولم تحفظها صدور الحكّائين والرواة، ومن ثمّ فإذا تصدّى كاتب أو مُخرج لإنتاج حكاية عن شخصية تاريخية لن يجد القصة كاملة، وسيتعيّن عليه أن يشتبك مع المتاح - بالاستقراء والمنطق أو بالخيال والإبداع أو بهما معًا - من أجل ردم الفجوات وترميم الشقوق، واستكمال القطع المتآكلة من رقعة الجلد، لتوفير سياق قادر على حمل الحكاية دراميًّا، من خلال مسار صاعد لا يخلو من توليفة الحكى الأساسية بما تتطلّبه من صراعٍ وتنامٍ وإضاءات وكشف!
مسلسل «رسالة الإمام» المعروض ضمن موسم رمضان يقف أمام السؤال نفسه. كثيرون ممّن سجّلوا عليه ملاحظات تاريخية غاب عنهم أن سؤال الهامش لا يقلُّ أهمية للدراما عن أسئلة المفاصل والمرتكزات. وبعيدًا من حالة تربّص واضحة يمارسها الأصوليّون وبعض وجوه التطرّف المعروفة، لا أعتقد أن صُنّاع العمل أرادوا تعبئة شريط من الدين والفقه، ولا إنتاج عدة ساعات من الوثائق والحكايات المُعلّبة، وإنما كان التاريخ مدخلاً لاستقراء علاقة الدين بالاجتماع وجذورها، وبيان أن العقيدة كائن حى يعيش فى نفوس المُعتقدين فينمو ويتطوّر معهم، وكذلك الإحالة بين الراهن والماضى عبر ضفيرة من السياقات المُحمّلة بالرموز والمُنتجة للمعانى والدلالات. إجمالاً ليس من دور المسلسل أن يكون حصّة تاريخ أو حصة دين، وإنما مساحة إبداعية تخص صُنّاعه وأفكارهم ورؤاهم وما يحملون من رسائل، ولا يُمكن مُساءلته إلا بقواعد الفن لا بمرويات التاريخ ولا بمُدوّنات الفقه، وفنيًّا حمل العمل وعودًا مبشّرة منذ لحظاته الأولى.
قدّم فريق الديكور مُعادلاً بصريا مُقنعا لفسطاط القرن التاسع الميلادى، ولعبت الأزياء دورًا فى استكمال الحالة بجمال محسوب حتى فى أشد مستويات الشخصيات فقرًا، بينما جاء المونتاج مُريحًا ومُتدفّقا بإيقاع هادئ يتناسب مع روح الحكاية وزمنها، ولم تخلُ الموسيقى من جانب عاطفى تأثيرى وإن بدت عصرية نوعًا ما، بينما كانت البطولة لمدير التصوير الذى صنع صورة جميلة ومواكبة لحكايتها، مع إضاءة المشاهد بجودة وتعبيرية لا تنفصل عن واقعها ولا تُشعرك بتجاوز مصادر الضوء الطبيعية وقتها، حتى أنها بدت أحيانا مثل لوحات مرسومة، وبالمثل نجح المخرج فى الرهان نفسه، فأخرج شريطا لا ينفصل عن الراهن ولا يجور على حكاية الماضى، قابضًا على التفاصيل البصرية ومسارات الأداء بشكل يحفظ للعمل هيئته التاريخية ويحفظ للمتلقى حيِّز الانفصال عن الدراما والاتصال بها فى آن واحد.
ميزة حكاية الشافعى أنها اشتباك مع الواقع من زاوية التاريخ، ومدخل حكائى قديم يُلامس سياقنا المعاصر بدرجة ما. إن مصر التى خاضت صراعًا مُحتدما مع جماعات عنف تستند إلى مرجعيات فقهية ماضوية وموغلة فى التطرف - حملت تصورات دينية تتوهم أنها الحق، واعتمدت كل أدوات الباطل لفرضها على هوية أقوى من كل تلك المحاولات - قد يكون فى قصتها مع الشافعى زاوية جديرة بالنظر، فالعالم والفقيه القابض على نورانية الرسالة فى قرونها الأولى، وجد فيها ثراءً اجتماعيا وثقافيا قاده إلى إعادة معالجة أفكاره ومنطلقات فقهه، ليخرج بطبعة مصرية من مذهبه الذى نشأ فى الحجاز وتطوّر فى العراق، لا لشىء إلا أن حال الفسطاط كانت أكثر عمقا وتعقيدا من أحوال مكة واليمن وبغداد، وأن هوية المصريين حكمت سياقات المعيشة بكل تفاصيلها، حتى أمور الاعتقاد.
من هنا تبرز فكرة واحدة بين زمنين: كما كانت استجابة الشافعى لواقع مصر ضرورة علمية وفقهية، فإن انتصار الهوية الوطنية على جماعات التطرّف كان حتمية تستمد جذورها من التاريخ، تأكيدًا لأن النيل قادر على تغيير كل من يسبحون فى تياره، لكنه لا يتغيّر بالأفكار الوافدة أو حتى بقوة السلاح.
يُؤثر عن ابن حنبل قوله: «خذوا عن الشافعى ما كتبه فى مصر.. فإنه وضع كتبه فى العراق ولم يُحكمها ثم جاء مصر فأحكم ذلك»، ويقول الشافعى نفسه: «لا أجعل فى حلٍّ مَن روى عنى كتابى البغدادى».. من هذا المنطلق تناول المسلسل آخر محطات الشافعى، وتحديدا سنواته الخمس فى مصر. أولا لأنها كانت أكثر ثراءً من غيرها، وشهدت إعادة إنتاج كل ما سبق من فكر الإمام مُعزّزًا ببصمة مصر وأثرها وما فى هويتها من تنوّع وثراء، وثانيا لأن تلك الزاوية قادرة على حمل «رسالة الإمام» الديناميكية المتطورة، من حيث إنها محاولة لمواكبة الحياة بالفقه لا سجنها فى أدمغة الفقهاء، فضلا عن أنها تحمل الرسالة المتصلة بصراع المتطرفين المتوهّم مع الحياة «هنا والآن». هكذا يمكن النظر إلى فلسفة صناع المسلسل باعتبارها رهانًا صائبًا، لمس غايته المقصودة بنعومة ومن دون خطابية أو صراخ، وهو الأثر الهامس الذى يمكن أن يبقى فى الوعى بإيحاء وشاعرية يناسبان هوى المصريين ومنطقهم، وليس بحدّة وتشنج كما يعمل المتطرفون.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة