ثلاث فعاليات نابضة بالحياة احتضنتها شمال سيناء خلال عشرة أيام فقط، كان يحتاج التفكير فى أيّة واحدة منها قبل شهور قليلة خيالاً قد يُورث الحسرة واليأس من استحالة تحقُّقه؛ الآن أصبح الخيال واقعًا ملموسًا للعيان. عادت الحياة إلى كل النقاط التى كانت مُلتهبةً ويقوّض الإرهاب قلبها وأطرافها، صحيح أنها ليست عودة سهلةً أو مجانية؛ لكن الغايات الكبرى لا تتحقّق دائمًا إلا بمتاعب وفواتير باهظة كالتى تكبّدناها، وعلى قدر التكلفة تكون حلاوة اللحظة واستثنائيتها، وضمان استمرارها أيضًا.
وقف محمد منير فى حفل حاشد أمام آلاف من أُسر سيناء والمُقيمين فيها، قبل ذلك التقت أعداد أكبر فى مائدة رمضانية عملاقة امتدّت نحو 6 كيلومترات على شواطئ العريش، وبينهما انطلق مهرجان ضخم للهجن بمشاركة مئات اللاعبين وآلاف الجمهور، بينهم مسؤولون وسياسيّون ونجوم وشخصيات عامة. بدأ الأمر بجولة رئيس الحكومة يرافقه سبعة وزراء، يناير الماضى، لمتابعة مشروعات التنمية فى شمال سيناء، واصطفاف ضخم للمعدّات وفرق العمل شهده الرئيس السيسى فى فبراير، ثم إفطاره مع قوات شرق القناة فى ذكرى العاشر من رمضان/ مطلع إبريل، وبالزخم نفسه جاءت مائدة الإفطار والمهرجان والحفل قبل أيام.
تحمل المشاهد المُتتابعة فى تكويناتها تفاصيل ودلالات تُوجب التوقُّف. الدولة بأعلى مستوياتها حاضرة على خط التماس وفى عمق المناطق التى كانت مُحرّمة بفعل الإرهاب، والناس يمارسون طقوسهم الطبيعية بأقصى تجلّيات البهجة والاحتفاء بالحياة، ويتجاور العمل مع الترفيه فى انسجامٍ وتكامل لا ينفصلان. لطالما كان الطعام مُفردةً احتفالية حاضرةً دائمًا فى وعى المصريين: أكلات شمّ النسيم والأعياد والمواسم، أصناف رمضان وعادات التجمّع فى موائد جماعية؛ هكذا تتعمّق دلالة مائدة العريش أكثر من كونها لقاء مُوسّعًا، لتكتسب معنىً إضافيًّا كأنه استقبال للحياة واحتفاء بتبدُّل الفصول والأحوال، وكذلك طقس الرياضة والتنافس فى مهرجان الهجن بما فيه من طاقةٍ وأمل وإدارة ناعمة للصراع، بكل ما فى أرواح البشر من سماحةٍ وما فى إنسانيّتهم العادية من حاجةٍ ماسّة لتجربة مشاعر النجاح حينًا والإخفاق أحيانًا، وحفل العريش بألوانه وحالاته من فقرات الشعر والغناء والإنشاد والرقص والفنون الشعبية. تتكامل كل العناصر لتصنع كرنفالاً مفتوحًا يُلخّص جوهر اللحظة ويُثبّت معانيها العميقة، ويُخرج لسانه شامتًا فى ماكينة الكُره والدم التى أدارها الإرهاب طويلا، وخرج منها خاسرًا، ليُعيد المحتفلون على تنوّع صور الاحتفال ضبط إيقاع الحياة فى تلك الأرض، بما يتواءم مع روحها واتساع صدور ناسها وعمق رصيدهم القيمى والحضارى.. الرسالة أننا انتصرنا، لا على العنف والتخويف والمُتجارين فيهما فقط، إنما على أنفسنا أيضًا، وعلى مخاوفنا الذاتية، وما تركته الأيام الماضية بكل قسوتها فى دواخلنا!
قرابة ثلاثين ألفًا حضروا الإفطار، وأكثر من 5 آلاف فى حفل «منير» بمشاركة هيثم نبيل ومحمود التهامى وهشام الجخ وفرقة العريش للفنون الشعبية وعدد من مُطربى سيناء، ونحو 1228 مُتسابقًا فى مهرجان الهجن وأضعافهم من العائلات والقبائل والجمهور والضيوف. إذا افترضنا أن خمسين ألفًا فقط تشاركوا أجواء الفعاليات الثلاث، فإن قرابة 30 % من قاطنى المدينة مارسوا صورًا مُتنوّعة للحياة خلال عشرة أيام فقط، بعدما ظلّت ممنوعة عليهم لنحو عشر سنوات، على الأقل بين 2011 وبداية مرحلة الأمان فى 2020، والقادم أفضل بطبيعة الحال، ليس للباقين من أهل المنطقة وحدهم؛ بل لآلاف غيرهم كانوا فيما سبق يجدون مُتنفّسًا مُريحًا ويفتحون شبّاك البهجة والحياة على شواطئ العريش.
مُعادلة «استعادة شمال سيناء» كان ينقصها أن يصطف الناس بعد علامة الجمع؛ حتى تكون النتيجة كاملةً ومُعبّرة تمامًا.
أنجزت الدولة ما عليها من زاوية الأمن؛ فدحرت الإرهاب وحاصرت معاقله وطهّرت الأرض وقطعت خطوط النار، وأنجزت ما يتبع ذلك من اعتبارات الأمن القومى؛ فرسمت خططًا وشرعت فى تنفيذها لتحصين الاستقرار بالديموغرافيا، لترغيب الناس فى الانتقال بتسهيلات الحياة وحوافز الرواتب، وعبر شبكة واسعة من المشروعات. فى باب التنمية لا مُلاحظة على الأداء ومُعدّلاته، فبرنامج العمل تدعمه مخصّصات بنحو 700 مليار جنيه، ويحظى بأولوية واضحة لدى القيادة والمؤسَّسات، ويُطرق كل أبواب التحديث بالتوازى دون تفريط، وبالفعل قطع شوطًا بعيدًا من الإنجاز فى مسارات العُمران والمرافق والخدمات. تسند سيناء ظهرها الآن إلى مُخطّط أفقى واسع من الأنفاق والكبارى والمحاور، وإلى محطتى: «بحر البقر» الأكبر فى العالم، و«المحسمة» الأفضل عالميًّا فى 2020، لإمداد نحو نصف المليون فدان باحتياجاتها المائية، وترتاح خريطتها على شبكة مُدن جديدة وتجمّعات بدوية ومناطق صناعة وزراعة واستثمار. استقرّت قاعدة التنمية ولا تزال؛ وتتبقّى حصّة الناس فى ذلك، ليس المقصود «الاستيعاب والقبول» وهما مُتحقِّقان بالفعل؛ إنما سؤال الجسارة والعودة الثابتة للانخراط فى الحياة باطمئنان وإقبال وفرح. تلك الفرحة يُمكن أن نلمسها فى فعاليات العريش الأخيرة!
إرادة الحياة تنتصر دائمًا، ليست الجُملة مُجرّد استخلاص حكيم لوجود الإنسانية على الأرض؛ وإنما تُجسّد تجربة مصرية مُتجدِّدة فى الزمن، اختبرناها وربحنا رهانها مئات المرّات فى تاريخنا وحاضرنا. صدّت مصر عشرات الاحتلالات: الهكسوس والفرس والبيزنطيون لم يُطفئوا شُعلة إيماننا بالحياة وإقبالنا عليها، ولا قرون العثمانيين الثقيلة، ولا مدافع الحملة الفرنسية، ولا أربع وسبعون سنة فى قيود الإنجليز مسّت هويّتنا أو انتقصت من براعتنا فى صناعة البهجة واستهلاكها. المعنى العميق أن الإرهاب لا يمكن أن يهزم بلدًا كاملاً، ولا أن يُحبط مُجتمعًا مُتماسكًا، وأن حيويّة الدول والأفراد مقياسها القدرة على جَبر الضرر، وتجاوز الآلام مهما كانت الجروح غائرة، ونحن خبراء فى ترميم شروخنا، وفى هضم المواجع وصبغ الأيام بضحكاتنا الرنّانة؛ أينما ضربت يدك فى كتاب التاريخ ستجد شاهدًا، وإذا نظرت إلى العريش اليوم لن تُحصى الشواهد.
زُرت العريش قبل خمس عشرة سنة، ربما لا تكون المدينة فارقةً فى شىء ممّا يخص العمران وعلامات الحضارة، كما فى مدنٍ أخرى على امتداد مصر، لكنّ فيها صفاءً يُحفّز على الحياة، وبكارةً كأنها طالعة حالاً من ماكينة الخلق، وسلامًا يُهذّب تفاصيل اليوم والتعاملات كأنك تمشى بين ملائكة وأطفال. لا ينقص المدينة أى شىء لتصبح مزارًا وقبلة، ومُرتكزًا للبهجة البسيطة غير المُكلّفة، والأيام العادية التى لا يُعقّدها التنميق المبالغ فيه كبقية وجهات السياحة؛ لكنها تزيد عن كل مراكزنا المضيئة بأن لنا فيها دمًا وأرواحًا وعهودًا قطعها الشهداء وأنجزوها، وعلينا لها واجب وديون واستحقاقات لا يصح أن نتوانى فى سدادها. يجب أن تصبح العريش، وكامل سيناء طبعًا، بمثابة القلب من الجسد. الواضح أن الدولة اعتمدتها بهذا الوصف فعلاً، والواجب أن نتحرّك جميعًا فى اتّجاه تعويضها عمّا فات، وتحصينها بالتفاف الأحباب والعشاق.
بدا من الفعاليات الأخيرة أن أهل شمال سيناء كانوا مُتعطِّشين للحياة، وفضلاً عن أن مهمّة الاستعادة والتطهير لم تكن لتكتمل على وجه سليم إلا بتعاون القبائل؛ فإن طول فترة المعاناة وقسوة الاختبارات وفداحة الكُلفة كلها باتت حصانةً وثيقة من تكرار ما سبق؛ إذ لن يتخلّى الناس عن أمانهم ولن يتهاونوا فيه مُستقبلا، ويُقدّمون الآن دليلاً عمليًّا بكل ما يملكون من طاقة ونهمٍ واشتياق للبهجة على أنهم آمنون. يُبرهنون لأنفسهم على انقضاء الأيام السوداء ويثأرون منها، ويُخاطبوننا جميعًا بأن البيت جاهز لاستقبال الزوّار والضيوف.. محافظ شمال سيناء أكد خلال المائدة جاهزية العريش لموسم الصيف، والحكومة ووزراؤها اختبروا الأمر فى زيارات عدّة على مدى شهور، ويتبقّى ترجمة تلك الحالة لأفكار وبرامج عمل: نحتاج خطّةً لتنظيم زيارات سريعة، وبرامج ترفيه، ومُعسكرات طُلاب، وأسابيع شباب، وخريطة حفلات ومُسابقات وأنشطة ثقافية ورياضية، وجولات لفرق المسرح وقصور الثقافة، وقوافل تثقيف ميدانية. نحتاج ملاعب ودور سينما ومكتبات، واستثمارًا فى الحياة والترفيه كما فى الإنتاج والتصنيع، وعلى الحكومة ووزارات السياحة والثقافة والشباب والأوقاف والتعليم والتعليم العالى أن تتحرّك فرادى وجماعات، وأن تضع برامج العمل وتشرع فى التنفيذ.. انتصرت سيناء على تُجّار الموت، وبدأت التعافى رغم الميراث الثقيل، وعلينا أن نُرسّخ تعافيها وننصرها دائمًا وبكل الصور والألوان فى معركة الحياة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة