حازم حسين

لبنان إلى قاعة الانتخاب.. أزمة البحث عن رئيس بين ركام الطائفية وفوضى السياسة

الأحد، 11 يونيو 2023 12:08 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يذهب البرلمان اللبنانى صبيحة الأربعاء لانتخاب رئيس جمهورية جديد؛ لكنه فى الغالب قد يعود صفر اليدين، إلى الآن لم تنضج التسوية، ولا فريق من المُتصارعين يضع التقهقر للوراء بين خياراته، وعليه فقد لا تخرج الجلسة عن ثلاث مسارات: إسقاطها بتغييب أغلبية الثلثين، أو إجراء دورة تصويت عنوانها «الورق الأبيض» ثم كسر النصاب، وأخيرًا الوصول للمحطة الثانية حال الثقة فى امتناع الـ65 صوتًا المطلوبة عن أى مرشح؛ حتى تكون تجربة لقياس القوى وحسم العنوان العريض: «لا رئيس بالمواجهة».
 
يبدو موقف المسيحيين أقوى بعدما التقوا على جهاد أزعور؛ خاصة أن الثنائى الشيعى تعلّل كثيرًا بعجزهم عن التوافق، وبرّر نبيه برى عدم دعوة البرلمان منذ يناير بغياب الترشيحات الجدية، الآن يبدو الوضع مُحرجًا للحزب الذى استنزف خصومه فى الجولات الماضية؛ ثم طرح مُرشَّحه مُتأخّرًا 4 أشهر عن الفراغ، الأرجح أنه لا أحد بين المُتجهّزين للجلسة يُعوّل على أن تُثمر شيئًا، حتى من ناحية تليين المواقف وتقريب الرؤى، وقد لا تعدو مناورة لامتصاص غضب الخارج، وردّ اتهامات التعطيل وتهديدات فرض العقوبات، إن كان ثمّة حافز لانتخاب رئيس منذ خُلوّ القصر؛ فقد سقط وتبعثرت أجزاؤه مُؤخّرًا، وبات الفاعلون ينتظرون نتائج الاتفاق السعودى الإيرانى، وعودة سوريا للجامعة العربية، ومسارات التهدئة الإقليمية، ولدى كُلٍّ منهم وهمٌ بإحراز مكاسب أكبر على أضواء الألعاب النارية فى احتفالات المنطقة.
 
احتاج الثنائى 11 جلسة فاشلة؛ بل دفع بقوة لإفشالها، حتى يعلن عن مُمثّله رسميًّا، صحيح أنه حاول تكييف الأمر بوصف «فرنجية» مدعومًا منه لا مُرشَّحًا له؛ إلا أن المناورة اللفظية لم تُغيّر الواقع، وتأكّد التحدّى مع جبل تصريحات من نعيم قاسم ومحمد رعد وهاشم صفى الدين وحسن فضل الله وغيرهم، مفادها أنهم جاهزون لفراغ طويل ما لم يُذعن الباقون ويتخلّوا عن طرح البدائل، الرسالة المُضمرة أن ثمّة تجربة شبيهة امتد الشغور فيها 29 شهرًا و46 جلسة؛ حتى بصم الجميع، قبولاً أو إذعانًا أو بالصمت المُرّ، على اختيار ميشال عون رئيسًا، ويُمكن أن يتكرّر المشهد ولا يزال المدى بعيدًا، إذ لم يمض على الفراغ سوى سبعة أشهر، هكذا يبدو طريق «بعبدا» مُحاطًا بالألغام، والمشهد أقرب إلى «عضّ أصابع» يُجاهر أحد طرفيه بأنه لن يكون البادئ بالصراخ، بل لا يُفوّت فرصةً للتلويح بجاهزيّته لمُكاسرة الجميع، وإعلان ولايته على السياسة من بوّابة القوّة.
 
لا خلاف على أن حسم الرئاسة يمرّ وجوبًا عبر التوافق، هذا ما قاله الفرقاء وسمعوه فى أغلب العواصم، ويُسوّقه البطريرك الراعى وتداوله فى الفاتيكان وباريس؛ لكن إلى أى قاعدةٍ سيستند؟ لا يبدو أن لدى الثنائى مُتّسعًا للتقاطع على اسم خارج دوائره اللصيقة، وقد حدّد شرطه بـ«رئيس لا يطعن المقاومة فى ظهرها»، دون شرح النقطة التى يراها طعنًا أو رسم المجال الذى يتحدّد عنده الظهر، فى المقابل يُفكّر جبران باسيل كمُرشَّح مُحتمل، وتتخطّفه اتجاهات ثلاثة: رفض «فرنجية» انطلاقًا من عدائه لعهد حماه حسبما يرى الأخير، ومناورة الحزب رغبة فى استمرار «تفاهم مار مخايل» وطمعًا فى توازنٍ ظرفى يُغلّفه وعدٌ بالمؤازرة اللاحقة، وألّا يشذّ طويلاً عن الدائرة المسيحية حتى لا يُعلّق جرس إخفاق الطائفة فى رقبته وحده، وإلى ذلك فإنه كمن يُشرف على الغرق ويتعشّم أن يُهديه الموج طوقًا مُستحيلاً، فإن كان أقر بضياع حظوظه تحت سيف العقوبات وخلاف المجتمع المارونى عليه؛ فإنه يستميت فى إثبات امتلاكه الورقة الرابحة، ويُحاذر حتى لا يقع الطلاق مع حارة حريك، التعقيد نفسه لدى بقية القوى المسيحية التى بدّلت أسماء وحرقت أوراقًا عديدة طوال شهور، ثم وصلت إلى قناعة اضطرارية بأنه لو كان لا مفر من ذهاب اللعبة إلى الهزيمة بنزف النقاط؛ فالأسلم أن تكون الخسارة وسط جبهة مُوحّدة؛ طالما تعذّر الفوز فرادى.
 
4 جلسات تحت ولاية «عون» و7 بعدها، انقضت كلها من الدورة الأولى دون اختبار قدرة طرف على جمع 65 صوتًا، وانحصرت المناورة فى تأمين النصاب ثم هدم الانعقاد، تُرك ميشال معوّض يحترق حتى انسحب مُؤخّرا لصالح مرشّح التوافق المسيحى، وتبخّر آخرون قبل عتبة البرلمان، وتداعت على الطريق أسماء مثل: زياد بارود وسليم إدّه وناصيف حتى وعصام خليفة وغيرهم، نظريًّا سقطت ورقة قائد الجيش جوزيف عون، رغم أنه لا يزال مدفوعًا باستماتة من عاصمة إقليمية، والأمل مُعلّق على انفضاض الثنائى والمعارضة عن الاختصام فى «فرنجية وأزعور»؛ حتى ينفتح الباب لخيارات بديلة قد يتقدّمها العماد الواقف على رأس الخدمة حاملاً قيده الدستورى، سابقًا قفز البرلمان برئاسة «برى» نفسه على شرط السنتين خارج وظائف الفئة الأولى، عندما انتُخب ميشال سليمان رئيسًا 2008؛ لكن ليس شرطًا أن يتجدّد الموقف وليس القائد الحالى حبيبًا كسابقيه، الصورة أقرب إلى فرنٍ ينفخ الجميع ناره لتأكل الأوراق الخفيفة، على أمل أن تظهر بطاقات جديدة صالحة للتوافق، أو تتقدّم أقلُّها احتراقًا وأكثرها مقاومة لكُرات اللهب المُتبادلة، ربما يصب ذلك فى صالح مرشّح الحزب، لا سيّما أنه قريب لفرنسا ودمشق، ولا رفض صريحا له من العرب.
 
اعتبر حزب الله سابقًا أن معوّض «مُرشّح التحدّى» ولن يقبله، تذرُّعًا بعلاقته الوطيدة مع واشنطن، والوصف نفسه يخلعه على «أزعور» لعمله فى صندوق النقد، بالمقابل ربما تُضمر كتلة السياديين والمُستقلّين والتغييريّين موقفًا من سليمان فرنجية؛ تأسيسًا على صداقته للأسد وإخلاصه للضاحية، ليست المشكلة فى المُرشَّحين أو غيرهما ممن يُحتمل الاشتباك حولهم؛ إذ طالما تقاطعت الطبقة السياسية مع الخارج، واستقر ذلك بالعُرف والممارسة، ولن تجد مُرشّحًا لا يمكن إلحاقه على جهة أو طعنه بها، إنما الأزمة أن الجميع يرفعون شعارات الاستقلال؛ بينما ينتظرون القرار من سفارة هنا أو عاصمة هناك، تكرّر الموقف كثيرًا بعد «الطائف» وقبلها، ومنذ الاستقلال وخلال الحرب وفى كل المراحل تقريبًا، والجديد اليوم أن بيروت لم تعد رقمًا صحيحًا أو مُتقدّمًا ضمن الاهتمامات الإقليمية والدولية، ولا يبدو أن طرفًا فى وارد التكفُّل بالمشهد فى الوصاية والأعباء، بينما يعيش لبنان سياقًا سياسيًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا خانقًا، وتفوق أزماته قدرة أى فريق على الحل الذاتى أو العابر للحدود، من هنا يُصبح الالتقاء ضرورة، لا لإقرار السيادة واقعًا فقط؛ بل لأنه الضمانة الوحيدة لعبور اختبار قاسٍ وضعوا أنفسهم والبلد فيه برعونة وتكبُّر، والسبيل العاصم من أن تتعرّى نخبة السياسة أمام شارع لم يُغادر فورة تشرين بعد، وليس راضيًا حتى اللحظة عن المُغالبة والتطاحن وتوظيف الدولة فى خدمة الطائفة، المشهد يُجدّد الأسئلة الصعبة عن التعايش ونهائية الكيان، وكل ما تأسَّس عليه لبنان من قيمٍ منحته رمزية أكبر فى معناها وأثرها من فكرة الدولة، لكنها أصغر فى البناء، وأخف فى الثبات، ويستحيل أن تحيا من دونها إطلاقًا.
 
فى 2016 قيلت الرسالة صريحة: «ميشال عون أو الفراغ»، لم تصدر للآن إشارة شبيهة بحق فرنجية، لكن التلميحات تحتمل التأويل، يرى الحزب أنه قوبل بعدم وفاء من حليفه «جبران»، ويعتبر الأخير أن طرح الثنائى مُرشّحًا مرفوضًا منه انتقاص وقفز على خدماته الكبيرة، لقاء ذلك كانت زيارة ميشال عون لدمشق قبل أيام رسالة بأن تيّاره لم ينقض عهد المُمانعة، ويراهن على أثر «اتفاق بكين» فى أن يُقرأ موقفه خارج مُعادلة الاستقطاب الإقليمى، يعلم العونيّون والشيعة أنه لا إمكانية للحسم عنوة، ولا قدرة على تكبّد فاتورته لو تحقّق جدلاً، ربما تهاوى اتفاق 2006 عمليًّا، بعدما تغيّرت الأوضاع واستنفد الحزب أغراضه من التيار حينما أراد تصوير المشهد صراعًا «وطنيًّا سنيًّا»؛ لكن لا تزال لدى الطرفين رغبة فى إبقاء النار كامنة تحت الرماد، من هذا الوجه يقاوم الحزب محاولات إحراجه عبر توافق مسيحى بالتفاف حليفه القديم، ولا يطمح التيار إلا فى أن يتخلّى الثنائى عن فرنجية؛ ما يُحتمل معه فى الأخير أن يكون الحسم للضاحية؛ لكن بيد «باسيل» نفسه.
 
منذ اغتيال رفيق الحريرى 2005، وُضع لبنان فى عصمة فريق، والأرجح أنه لن يتخلّى عن طعم «سُكّر الهيمنة» على طرف لسانه، يصعب وفق هذا التصوّر استبعاد إرادة «عون» فى تعميق الفراغ؛ بإصدار مرسوم استقالة الحكومة قبل رحيله؛ إذ لم يكن إخلاصه للاتفاق مع الحزب يسمح باتخاذ القرار بمعزلٍ عنه، ولا عن موقف «8 آذار» من السنّة عامة وحكومة ميقاتى بالخصوص، وبالمثل كانت مناورة الجنوب قبل أسبوعين تلويحًا بفائض القوة، وحسمًا نهائيًّا للوصاية دون بقية الأطراف حتى لو كان الحليف السورى، إذا تُرك الفرقاء لأنفسهم فلسنا فى وارد الحسم قريبًا، وعلى الجميع استيعاب أن «تكسير العظم» لن يُزيح الخصوم، ولا فائدة من أطماع ترجمة مفاعيل الخارج أرباحًا بالداخل، الأولوية لا تزال لاتفاق الطائف؛ فلم تنضج البيئة للخروج منه بميثاق يُرجّح كفّة الدولة على كِفاف الطائفية، فضلاً عن أن تقويضه بالممارسة يُهدّد بوضع البلد على فوّهة بركان. 
 
دعا «برى» للجلسة حرجًا من وعد سابق بأن ينعقد المجلس منتصف يونيو، وكثيرون طالبوا بها على مدى شهور، لكن يذهب الجميع إليها مُضطرّين لا مُقتنعين؛ إذ يسعى كل طرف لإحراج غريمه والتطهُّر أمام الخارج، وعليه فلا يزال إرجاؤها ضمن الاحتمالات، وإن اكتملت فمسارها محكوم غالبًا بالفشل، وأقصى ما ستُحصّله أن تُسلَّم الرسائل باليد بدلاً عن مراسيل الداخل وحمام السفارات، يردّ الحزب محنته للتدخُّلات الأمريكية؛ بينما تراقب واشنطن مُتجنّبةً لعبة الأسماء، وقد يصبح الموقف أكثر حرجًا إذا أبدت المعارضة ليونة فى خلع «أزعور» وتصلّب الثنائى فى تثبيت «فرنجية»، والحقيقة أنه لا يملك فرض مُرشّحه؛ لكن يظلّ قادرًا على التعطيل، وإن كان سقوط الأول حتميًّا أمام رفضه القاطع فنجاح الثانى غير ممكن دون قبول مسيحى، السياسة اللبنانية هشّةٌ لدرجة أن عجلتها ستتعطّل من أصغر عصا تُحشر فيها، والانسداد الراهن ليس الأخطر؛ إنما العرقلة لاحقًا فى البرلمان والحكومة والبلديات والمصرف المركزى وكل العناوين اليومية؛ إن قرّر فريق انتزاع الرئاسة رغمًا عن الباقين.
 
بدا أن هناك توزيع أدوار بين حديث «حركة أمل» عن التصويت لمُرشّحها بدلاً من «الورقة البيضاء»، وتلويح الحزب ببقية الخيارات الدستورية ومنها نصاب الثلثين؛ ما يُحتمل معه جس النبض بالتصويت الأوّل ثم فضّ الانعقاد كالعادة، بينما يزداد الرهان على تشقّق الإجماع المسيحى داخل الجلسة أو خارجها، وعلى المُستقلين والخائفين من عودة سياسة «الشطب الخشن»، لكن بعدما التحق «جنبلاط» بفريق «أزعور» بات الأمر مُقلقًا للثنائى بدرجة أكبر، وعبور الدورة الأولى بتقدّم أى مرشّح سيدفع الطرفين، حال عدم إسقاط النصاب، إلى اعتماد الخيار الأبيض هروبًا من مفاجآت المُتردّيين أو تبعات الحسم خارج التوافق.
 
حظوظ أزعور وفرنجية مُتقاربة، ربما عند 40 صوتًا فأكثر قليلاً؛ وإن تفوّق الأوّل. لا أحد يحتمل مُغامرة الرهان على المُتأرجحين فى جولةٍ ثانية لجبر الرقم إلى 65، وحتى فى الأولى لن يقبل الحزب أن يبدو أضعف من خصومه ولو بصوت واحد، هكذا قد تخفُت ترجيحات اكتمال النصاب، وإن حدث فستكون البطاقات البيضاء رسالةً خشنة يعقبها التفرُّق إلى أجلٍ غير معلوم، وقد يمتدّ الفراغ شهورًا ما لم يتدخّل الخارج لإخضاع وكلائه وتهذيب نزواتهم، لبنان يواجه موجة عاتية، لا كسابقاتها، وحتى بعدما يُرتّب «بعبدا» ويُؤمّن وفادة ساكنه الجديد، سيظل السؤال قائمًا عن حجم الصدوع فى أبنيته الشائخة جرّاء تلاحق الضربات، وعن فرص الاستشفاء من أمراضه القديمة وقد أُضيفت إليها حزمةٌ أكبر، تُهدّد ميثاقية التجربة وإمكانات بقائها؛ طالما ظل فاعلوها يرهنون مصالحهم راضين، ويُقدّرون مواقفهم على موازين الآخرين أوّلاً.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة