ذهب مصطفى النحاس باشا، رئيس الحكومة، ومعه محمود فهمى النقراشى، ومحمد حنفى الطرزى باشا، إلى مقبرة سعد باشا زغلول فى الإمام الشافعى بالقاهرة والمسؤول عن مقابر الإمام، وكانت الزيارة فى المساء وفى سرية، وبعد تسع سنوات من وفاة سعد، 23 أغسطس 1927، وكان الهدف هو التأكد من وجود الجثمان وعدم سرقته.
يذكر الكاتب المفكر عباس محمود العقاد فى كتابه «سعد زغلول سيرة وتحية»: «كان كثير من أصدقاء سعد يخشون أن تكون الجثة قد سرقت من مدفنها ليحال بينها وبين الضريح المشيد لمثواها فى يوم من الأيام، مهما تتعاقب الدول والوزارات، ولكنها وجدت فى مدفنها النقى سليمة من عوارض الفناء لم يصبها إلا جفاف وضمور يسير».
اطمأن «النحاس» على وجود الجثة وتم تكفينها من جديد، وقام بتزويد الحراسة على المقبرة حتى اليوم التالى «19 يونيو، مثل هذا اليوم، 1936» وهو اليوم الذى تقرر أن يتم فيه نقل الجثمان إلى الضريح الجديد، بعد أن استغرق تشييده تسع سنوات، شهدت حربا لا هوادة فيها لعدم نقل جثمان سعد إليه.
يذكر «العقاد» أن وفاة سعد كانت أثناء وجود وزارة ائتلافية يؤيدها الوفديون وحلفاؤهم من الأحزاب الأخرى، وأمرت ببناء ضريح إلى جانب بيت الأمة «بيت سعد زغلول» ينقل إليه الجثمان بعد الفراغ من بنائه، ويصنع تمثالين يقام أحدهما فى القاهرة والآخر فى الإسكندرية، وبلغت الاكتتابات الشعبية لتخليد ذكرى الزعيم نحو عشرين ألف جنيه، ثم توقفت.
يضيف «العقاد»: «لما تم بناء الضريح كانت وزارة إسماعيل صدقى باشا القائمة على خصومة لسعد والسعديين، فتباطأت الوزارة فى نقل الجثمان ثم حولت الضريح إلى مقبرة لبعض الملوك الفراعنة الأقدمين، وتعللت لذلك بأن السيدة الجليلة صفية قرينة سعد رفضت أن تنقل رفاته إلى الضريح إذا كان فى النية تحويله إلى مقبرة عامة له ولبعض الوزراء الآخرين».
القصة على هذا النحو لم تكن مجرد نقل جثمان من مكان إلى مكان، وإنما كانت حربا سياسية بين حزب الوفد وبين خصومه استمرت حتى فاز حزب الوفد فى الانتخابات، واستطاع تشكيل الحكومة، وهو ما يشير إليه مصطفى النحاس باشا رئيس حزب الوفد بعد وفاة سعد، فى الجزء الأول من مذكراته «ربع قرن من السياسية»، تقديم وتحقيق، أحمد عزالدين.
يذكر «النحاس» فى مذكراته، أن قيادة الحزب عقدت اجتماعا قبل تشكيل الحكومة وكانت الجلسة هادئة، وبحثت أول مسألة فيها، وهى أننا عند تأليف الوزارة سيكون أول عمل لنا هو «نقل رفات المغفور له سعد زغلول إلى ضريحه الذى أنشأناه له أمام بيت الأمة، والذى نقل إليه صدقى باشا رفات قدماء المصريين، واقترح عثمان محرم أن نبدأ قبل نقل الرفات فى سد جميع العيون الموجودة فى الضريح بالأسمنت المسلح، ولا يبق بعد دفن سعد إلا لحد واحد تدفن فيه أم المصريين «صفية زغلول» بعد عمر طويل، حتى إذا ما وجد فى الأمر شىء لا تترك فرصة لمثل صدقى أن يعبث بالضريح مرة أخرى، وقد صادق هذا الاقتراح إجماعا وشكرا لعثمان محرم على هذه الفكرة الموفقة».
أصدرت حكومة الوفد قانونا بنقل الجثمان، وصدق عليه البرلمان بمجلسيه «النواب والشيوخ» ومجلس الوصاية، وفى يوم 19 يونيو 1936 تم النقل، ويصف النحاس باشا مشهد الجنازة التى تعد الثانية لسعد زغلول، قائلا: «نظم احتفال ضم الهيئات والطبقات، وخصص لكل طائفة مكان، وتقدمت الموكب كوكبة من الجنود، ثم نعش الزعيم، وسرنا خلفه ومعنا كبير أمناء القصر الملكى نائبا عن مجلس الوصاية وعدد كبير من عظماء مصر وممثلى الأحزاب والهيئات والهيئة الوفدية، ولجان الوفد والأهالى، وقد تحرك الموكب من الإمام الشافعى مخترقا الشوارع المهمة بالعاصمة، حتى وصل إلى الضريح ثم أطلقت المدافع تحية وتوديعا، وورى سعد ضريحه الجديد بين مظاهر الإجلال من الشعب الوفى لزعيمه».
يضيف «النحاس»: «بعد انتهاء المراسم قصدت ومعى إخوانى الوزراء وأعضاء الوفد إلى حيث كانت السيدة الجليلة أم المصريين تجلس فى حجرة ملحقة بالضريح، فقدمنا لها التعازى وأعلنا أن هذا يوم من أيام التاريخ».
يرى «العقاد» أن الضريح الذى استقر فيه رفات الزعيم العظيم بنية لائقة بتخليد ذكراه، لأنها بنية مصرية توافرت فيها البساطة والفخامة، وأخذت من الطراز المصرى القديم ما لا تناقض بينه وبين الأصول الإسلامية.