ما شاهدته يوم الجمعة الماضية داخل دار الأوبرا المصرية من تنظيم رائع واستعدادات مبهرة وإقبال يفوق الوصف وتجاوب وتفاعل مدهش مع أول حفل من مشروع " الأساتذة" للتراث الموسيقى والغنائى المصرى والعربى، يدفع إلى الاعتزاز والفخر بتراث مصر وكنوزها الفنية التى عاصرت مراحل النهضة والتطور الاجتماعى والسياسى لمصر منذ بدايات القرن العشرين، وعبرت عن المخزون الثقافى للشعب المصرى وموسيقاه التى تجاوزت حدود التاريخ والجغرافيا، لتعيش فى الوجدان وفى الذاكرة الجمعية للمصريين وللعرب أيضا.
ما شاهدته أيضا يبعث على الثقة الكاملة فى القوة الناعمة لمصر والممتدة منذ آلاف السنين وأدواتها فى الثقافة والفن والموسيقى والعلم والتعليم، لدعم مكانتها بين الأمم منذ فجر التاريخ وفى صراعها من أجل البقاء، ويؤكد أن العملة الجيدة لا بد – مهما طال الوقت وتوارت وعانت من الإهمال – أن تطرد العملة الرديئة... والمجتمعات الساعية إلى التطور والنمو، لا بد أن يكون لديها مشروع قومى للفن والثقافة وفى القلب منه الغناء والموسيقى.
والدليل على ما أقول هو الإقبال الكبير على شراء تذاكر الحفل الأول لمشروع "الأساتذة" بعد ساعات من الإعلان عنه، وازدحام المسرح الكبير بدار الأوبرا بالجمهور، وأتصور لو أن المسرح كان يتسع لأضعاف مقاعده- 1200 مقعد- لامتلأت عن آخرها، وهو ما يعنى أن تراثنا الموسيقى والغنائى ما زال جاذبا للأجيال الجديدة، وما زال يعيش فى وجدانها، ويمكنه أن يعيد صياغة الذائقة الفنية للمجتمع من جديد بعد أن تشوهت وتلوثت "بالضجيج السمعى والبصرى".
والدليل أيضا ملايين المشاهدين الذين تحلقوا حول شاشة قناة "الحياة" الفضائية التى تولت حصريا إذاعة الحفل، واحتلت طوال اليومين الماضيين المرتبة الأولى بين القنوات الفضائية المصرية وربما العربية فى نسب المشاهدة بعد إذاعة الحفل الذى كان نجمه اللامع الجميل الفنان مدحت صالح.
الحفل الأول لمشروع "الأساتذة" يؤكد من جديد ما قيل عن دور الموسيقى فى حياة الفرد وفى حياة الشعوب والحضارات، فالموسيقى لها دورها وأهميتها فى تحفيز الإبداع وتخفيف التوتر والارتقاء بالذوق العام والأخلاق وزيادة الإنتاجية.
وليس هناك فيلسوف أو مؤلف أو كاتب أو مفكر قديما وحديثا إلا وكان يرى فى الموسيقى "غذاء كل المحبين" – كما قال الصوفى المعروف جلال الدين الرومى- أو هى غذاء للروح كما رأى الكاتب الإنجليزى وليام شكسبير، أو هى مرآة حضارة الشعوب كما كتب الفيلسوف الصينى القديم كونفوشيوس، أو كمال قال إحسان عبد القدوس " فالموسيقى فن لا يموت".. فمن لا يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج – كما قال العلامة الإمام أبو حامد الغزالى.
من داخل الأوبرا ومن خلال مشروع "الأساتذة" لإحياء تراث كبار وعباقرة الموسيقى والغناء فى مصر بصياغة عصرية دون المساس بالمقامات الأصلية واللحن الأساسي، كانت الرسالة واضحة بأن قوة مصر الناعمة إلى جانب قوتها الصلبة وجيشها الباسل هى الأدوات الحقيقية للنجاح فى السياسة الدولية.. وهو ما ذكره الدكتور جوزيف ناى أستاذ السياسة الدولية فى جامعة هارفارد فى كتابه "القوة الناعمة" قائلا إن "القوة الناعمة لا تغنى عن القوة الصلبة العسكرية، إنما هى وسيلة وأداة من أدوات الحرب، ولكن بأسلوب ناعم ومؤثر يحقق الأهداف عن طريق الجاذبية والإقناع وليس الإكراه أو دفع الأموال، وموارد القوة الناعمة لأى بلد هى ثقافته إذا كانت تتمتع بالقدر الأدنى من الجاذبية، وقيمه السياسية عندما يطبقها بإخلاص داخلياً وخارجياً.
وبعد الحفل الأول لمشروع "الأساتذة" والذى قدمه الفنان مدحت صالح، أصبح هناك مطلب شعبى باستمرار المشروع فى سبيل إحياء تراثنا الموسيقى واستعادة الوعى الغائب بفعل فاعل للارتقاء بالذوق العام والأخلاق والقيم.
من هنا، نوجه التحية والتقدير إلى كل من ساهم فى إخراج ونجاح هذا المشروع الفنى الكبير، وفى مقدمتها الاستجابة السريعة من مؤسسات الدولة المعنية ممثلة فى وزارة الثقافة ودار الأوبرا المصرية وللشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، الكيان الإعلامى الكبير فى العالم العربى، وقناة "الحياة" المصرية ومدحت صالح الفنان المنتمى ابن مدرسة الموسيقى الشرقية العريقة، والمهموم والمهتم بالحفاظ على التقاليد الموسيقية العربية وتقديمها بأساليب عصريّة بهدف الحفاظ على التراث الغنائى المصرى.
مشروع "الأساتذة" هو عودة للوعى الفنى والموسيقى وتقديم التراث فى صورة عصرية، وتوثيق هذا التراث للأجيال الحالية والقادمة، فقد استمعنا إلى الفن الرائق الجميل لألحان رياض السنباطي، ومحمد الموجى، وكمال الطويل، ومحمد عبد الوهاب، وبليغ حمدى، ومنير مراد، ومحمد فوزى، وفريد الأطرش، والأخوين رحبانى (لبنان)، وطلال مداح، وسراج عمر( السعودية)، وعبد الحميد السيد (الكويت).
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة