ضجت مواقع التواصل الاجتماعي على مختلف أشكالها وألوانها بفيديوهات ومقاطع مصورة لتجار السيارات أو على الأرجح "السماسرة"، الذين يقدمون "شو" احتفالي يومي، عند عرض سيارة للبيع من خلال تعديد مميزاتها وخصائصها وقدراتها ومستويات الرفاهية بداخلها، في وقت تحول معه سوق السيارات من مجرد وكلاء ومعارض ووسطاء، إلى تجارة كبيرة متعددة الأطراف، واستثمار ضخم طرقه من يفهمون ومن لا يفهمون، من أجل المكسب السريع، ارتباطاً بمجموعة عوامل بعضها عالمية وأغلبها محلية.
صناعة السيارات في العالم كله تعاني مشكلات ضخمة، مرتبطة بتوفير الرقائق الإلكترونية، التي تعتبر الأجزاء الأكثر حساسية أو كما يقولون "عقل السيارة" ومؤشر التحكم في مستوى الرفاهية والخدمات بها، الأمر الذي أدي إلى زيادة الأسعار في بلاد المنشأ، وتراجع معدلات الإنتاج للشركات العالمية، نتيجة تأثرها الملحوظ بمشكلة نقص الرقائق الإلكترونية، وتحكم عدد من دول آسيا على رأسهم الصين وتايوان وكوريا الجنوبية، بعدما تخلت الدول الصناعية الكبرى عن إنتاج أشباه الموصلات، هرباً من الضرائب والعمالة الكثيفة، فصارت روحها تحت يد الصين وأخواتها.
التقارير الدولية تشير إلى أن أزمة الرقائق الإلكترونية قد تنتهي في العام 2024، وفق أكثر التقديرات تفاؤلاً، وهذا ما نقلته وسائل الإعلام عن رئيس شركة انتل العالمية، الذي أكد أن المصانع مازالت تواجه تحديات كبيرة لتلبية احتياجات السوق، وهو ما يؤشر إلى استمرار الارتباك في سوق السيارات عالمياً على مستوى التصنيع، حتى مطلع عام 2025 على الأقل لتعود الشركات مرة أخرى إلى معدلات إنتاجاها قبل الأزمة.
الحقيقة رغم وجاهة أسباب نقص المعروض من السيارات على المستوى العالمي، إلا أن القضية في مصر تحكمها أبعاد عديدة، ليس أهمها قضية الرقائق أو أشباه الموصلات، خاصة بعدما تحولت السيارات في مصر إلى استثمار ضخم دخله آلاف الأفراد ارتباطا بظهور مكاسب خيالية في الأسعار نتيجة التسعير العشوائي، الذي وصل بدولار السيارات إلى حدود غير معقولة قد تزيد 100% تقريباً عن المعلن رسمياً، بالإضافة إلى ظاهرة "الأوفر برايس"، التي باتت تمثل نسبة معتبرة من إجمالي ثمن أي سيارة جديدة.
الحال وصل إلى متابعة فيديوهات لتسويق سيارات مر على تصنيعها أكثر من 40 عاماً مضت، وتباع بمبالغ لا يصدقها أحد، في حين أنها جزء من تصنيع "الخردة" – المكون الأهم في الحديد - في كل دول العالم، قياساً على المعايير الفنية والصناعية ومعدلات التلوث البيئي، بينما نجد سيارات أخرى تعدى ثمنها المليون جنيه في حين أن سعرها الحقيقي لا يزيد عن 30% من هذا الرقم، إلا أن عشرات الوسطاء، وآلاف التجار والسلسلة الضخمة الممتدة من بلد المنشأ حتى بيع السيارة، تضع أعباء مالية كبيرة ومكاسب محتملة لكل نقطة أو حلقة في السلسلة المذكورة، فالكل يربح على حساب المستهلك النهائي.
جزء كبير من أزمة السيارات في مصر مرتبط بنقص المعروض، والخيارات القليلة والمكلفة المتاحة أمام أصحاب السيارات للتحديث أو التغيير لطرازات أو أنواع أفضل، كما كانوا يمارسون هذا النشاط من قبل، فالفرص باتت محدودة والكل صار أكثر تمسكاً بسيارته، فلن يجد البديل المناسب حين بيعها، وعلى الناحية الأخرى السيارات الحديثة "زيرو" أول استعمال، قليلة جداً وغالية الثمن بصورة مبالغ فيها، وهذا خلق تقاطع حاد بين العرض والطلب، حتى لو كان المعروض قليل، فمن يرغبون بشراء سيارات جديدة أعدادهم كثيرة، لكن سعر المعروض والمتاح أكبر بكثير من حجم إمكانياتهم أو قدرتهم الشرائية.
لو جاز أن نضرب مثالاً.. أعتقد أن المشتري موجود وجاد لكنه لا يمتلك أكثر من 400 ألف جنيه، في حين أن السيارة المستهدفة أو التي يخطط لشرائها تقترب من المليون جنيه، فيتقاطع العرض والطلب، فالمستهلك الذي يحرك الطلب ويصنعه لن تتوفر لديه الموارد المالية لشراء السيارة، وفي الوقت ذاته لن يتنازل الوكيل أو التاجر أو البائع عن مكاسبه من أجل إتمام هذه الصفقة، وهنا تصبح النتيجة النهائية ركود على المدي القريب والمتوسط، وزيادة جموح الأسعار، فالسوق المصرية تتحرك دائماً بصورة غير متوقعة، فقد تجد الأسعار عند أعلى نقطة في أشد أوقات الركود، وهذه معادلة غير مفهومة، بالنسبة لي على الأقل!!
لا أرى حلولاً واضحة في الوقت الراهن لقضية أسعار السيارات، خاصة أن الموضوع معقد ومتشابك كما ذكرت، لكن في اعتقادي أن زيادة المعروض هي المفتاح الأهم لاستعادة الحيوية والنمو لتلك السوق، مع ضرورة خروج المستثمر العشوائي، وكل من زحفوا على هذه التجارة دون أن تكون لديهم الخبرات المناسبة أو الخطط المدروسة للاستمرار فيها، وهم أقرب الشبه لأولئك الذين وظفوا أموالهم في سبائك الذهب، وصعدوا بأسعارها إلى حدود غير معقولة، وصفوا أعمالهم ومشروعاتهم طمعاً في المكسب السهل السريع.
أتوقع أن الفترة المقبلة ستشهد المزيد من الركود والتراجع في نسب مبيعات السيارات، سواء الجديدة أو المستعملة، بالإضافة إلى ضغوط الخسائر المتوقعة لأصحاب المعارض نتيجة التكاليف والمصروفات الثابتة التي يتحملونها وتستوجب سرعة حركة البيع والشراء، بطريقة تضمن تدفق السيولة لاستمرار هذه التجارة، ونصيحتي للمستهلك في هذه الأجواء أن يدرس أولوياته جيداً، ويعيد توظيف فكرته عن السيارة الخاصة، هل باتت وسيلة للرفاهية وشكل من صور الكماليات؟ أم أنها ضرورة لا يمكن التخلي عنها حتى لو فقد معها مدخراته، وتحمل أعباء ديون قد تستمر سنوات عديدة، في ظل مناخ اقتصادي عالمي لا يمكن لأحد توقع نتائجه أو قياس تأثيراته، خاصة على الدول النامية والأسواق الناشئة؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة