إضرابٌ واسع بدأه عشرات الآلاف من فنانى هوليوود، ولا يُعرَف إلى متى أو أين يمضى. يبدو المُضربون مُتشدِّدين فى الدفاع عن حقوقٍ يرونها مهضومة، وتراهن شركات الإنتاج على رخاوة قدراتهم وألّا تصمد لأكثر من أسابيع. قد يبدو من أول نظرة أننا بصدد نُخبٍ لمهنةً نوعية فى ظروف مُجزية وشروط عمل مُرفَّهة، يجنون الشهرة والمكانة وملايين الدولارات، وهذا حقيقى لبعضهم على الأقل؛ إنما الوجه الأعمق أننا إزاء اختلالٍ فى توزيع عوائد الجهد وفائض القيمة، ما يخص الأرباح، أو حقوق الأداء التى تُمثّل رصيدًا دائمًا أقرب لتحويشة العُمر. تطوَّرت آليات الإنتاج والعرض مع طفرة التقنية والبث الرقمى المدفوع، ولم تتطوَّر توازنات المبدعين أمام رؤوس المال والاستوديوهات المتضخمة كديناصورات لا تشبع. رغم اختلاف الحقل والسياق، فإن ما يجرى فى «السوشيال ميديا» لا يختلف كثيرًا؛ حتى لو لم يلحظ المستخدمون للآن انحراف مُعادلة المنفعة أو يثوروا عليها؛ لكن الواقع أن شركات عملاقة تُوظِّف بيانات وأنشطة وجهود مئات الملايين بـ«سنتات» للبعض، ومجانًا مع الأغلبية، وفوق ذلك تُعرّض سلامهم النفسى والعقلى لمخاطر حقيقية، وتُقابل ما يقع على عاتقها من مسؤوليات بالمناورة أحيانًا، وبالتنصُّل دائمًا من الأخطاء والخروقات، والتهم المُعلَّقة على صدورها أجراسًا لا تتوقَّف عن الاهتزاز والضجيج.
فى أزمة هوليوود بُعدٌ رقمى؛ إذ يهددهم الذكاء الاصطناعى بسرقة وجوههم وأصواتهم، أو حتى استبدالهم بشخصيات مُخلّقة رقميًّا بالكامل، كما يرفض الفنّانون استبقاء الأُطر القديمة حَكَمًا على سياق جديد تغيَّرت فيه حسابات الجدوى والمكاسب. ربما كان مقبولاً فى الماضى أن يُعتَبَر المُبدعون أُجراءً يبيعون إبداعهم ثم ينصرفون مع تلويحة وداع؛ لكن عصر الإتاحة ووفرة العرض والطلب يُوجب أن يكونوا شركاء حقيقيين، وكاملى الحقوق مع مُموّلى أفكارهم، وهو تصوُّر يفرض تحرير العلاقة، وإعادة صياغة التعاقدات وعلاقات العمل بما لا يُجمّد مزايا طرف لصالح آخر؛ ولا منطق للتعلُّل بأنها سوقٌ مفتوحة يحقُّ قبول شروطها أو الانصراف عنها؛ لأن التعايش المُتكافئ لم يعد قرارًا فرديًّا ولو من الفريق المُهيمن بسطوة المال. الواقع أن من نتاجات طفرة التقنية تحييد تحكُّم حَمَلة الشيكات واللافتات ذات المخالب والأنياب، وإلى ذلك، إعادة الاعتبار للابتكار والأصالة والأفكار المُبدعة، طالما كان بإمكان هاوٍ بلوجستيات بسيطة أن يقتنص ذيوعًا وجماهيرية قد تتجاوز شريطًا لنتفليكس أو ديزنى. مَدُّ الخطّ على استقامته فى المنصَّات الاجتماعية يضعنا أمام تغيُّرات جذرية تتطلَّب أنماطًا أكثر حداثةً فى التنظيم والالتزامات وعدالة المنفعة؛ لا سيّما أن شركات التقنية ليست مُنشئًا للمحتوى الذى يُولِّد العوائد؛ إنما هى أقرب لمُنتج الدراما الذى يُموّل إبداعات الآخرين، ومن ثمّ لا يصح أن يسطو على مداخيلها بمفرده، أو يصبح «ربَّ عمل» لمعاونيه بدل أن يكون «شريكًا مُكافئًا» بقدر إسهامه، وبما لا يسلبهم أثر ما يُنتجون من قيمة مُضافة.
فرضت المنصًّات واقعًا إجباريًّا، خُلاصته أنها المفاوض مع المُعلنين فى التسعير والتحصيل، ثمّ إنها مالك العزبة وتُلقى لعُمّال التراحيل فُتات ما يفيض على حاجتها. الأمر يستدعى دخول طرف ثالث، قد يكون من الحكومات أو مُؤسَّسات رسمية وأهلية ذات صفة اقتصادية، أو ربما ابتكار روابط وأشكال تنظيمية ينخرط فيها مُنشئو المحتوى وجامعو الأخبار وشركات الإنتاج؛ لإرساء علاقة تفاوضية تسمح بالتوافق على صيغة عادلة، وتوزيع المنافع والأعباء بتكافؤ، والخروج من زنزانة «عقود الإذعان» إلى براح الشراكة الحقيقية المتُوازنة، بما لا يُحابى المنصَّات أو يُطلق يدها لافتراس الأفراد وصغار المستثمرين فى المعرفة والترفيه. إذا جمعنا ما فات إلى حقيقة أن أغلب عمالقة التكنولوجيا يتهرّبون من التزاماتهم تجاه الأسواق التى يجنون منها مكاسبهم، ويُسدّدون أعباءهم الضريبية فى بلدان المنشأ، ويمنحونها كعكة التوظيف والاستثمار وتركُّز الأصول ومُخصَّصات البحث والتطوير؛ لتُدار الحالة بكاملها لفائدة مجتمعات لم تُشارك فى إنتاج وتداول المحتوى والأنشطة التجارية المصاحبة، مقابل حرمان أصحاب البيانات وأطراف الاتصال الفعليين، وبهذا نكون إزاء قرصنة حقيقية يقودها حيتان الديجيتال، وتساعدهم عليها دول بعينها لقاء ما تُحصّله من مكاسب مادية، وما ينبنى عليه من هيمنة وسُلطة معنوية، وإسناد وتعميم لنموذجها الحضارى، على حساب مجتمعات وهويَّات ترزح فى قيود «المفعول به» طوال الوقت.
لا تزال وسائط التواصل الرقمى تتعامل مع مستخدميها بوصفها خدمة؛ وربما كان ذلك صالحًا فى بادئ الأمر. الآن تحوَّلت إلى استثمار مُخطَّط وعالى الربحية، ولا يمكن أن يكون كل المحيطين به زبائن، حتى المُتعهِّدين ومُبتكرى المُدخلَات. استبقاء تلك الحالة والتعسُّف فى فرضها أشبه بأن تتعامل سلسلة مطاعم مع المُورِّدين والطُّهاة وفريق الضيافة كالمستهلكين والجالسين إلى الموائد. واقع الحال أن «السوشيال ميديا» ليست خدمة مجانية، وإلّا ما تطوّعت الشركات لابتكار برامج زهيدة للأرباح والمُكافآت. عندما سارت فى هذه الوجهة كانت تعرف تمامًا أنها مَدينةٌ لملايين الشُّركاء ممَّن يخلقون أرباحها بكَدِّهم واجتهادهم، وبدلاً من البحث عن العدالة انحازت لأقلّ الوسائل كُلفة؛ فألقت صحونها الفارغة ليتسابق عليها فُقراء المنصَّات وتنصرف أذهانهم عن مطابخها العامرة. ليس مقبولاً ولا صالحًا أن تمضى العلاقة على قدمٍ واحدة وبالوتيرة المُختلَّة نفسها، بينما ينزف الشركاء المُستبعَدون، وتواصل الشركات المُناورة والفرز وإطاحة الكيانات، لصالح إرساء طبيعة فردانية يستحيل على المُستخدمين تنظيمها أو التمرُّد عليها، الآن وفى المستقبل.
تبدو اللعبة واضحةً فى العداء العميق لجامعى الأخبار وشركات المحتوى، مُقابل مُحاباة الأفراد والتجارب غير المؤسَّسية. قد ينظر البعض للأمر من زاوية تمكين الهواة والابتكار الشخصى والانحياز لحالة ديمقراطية فى تداول المعرفة، وكان التفسير قادرًا على الصمود لولا أن كثيرًا من المُمارسات المُلحقة تتصادم معه: فرضت المنصَّات قيودًا على المشاعية خلال كورونا وحرب أوكرانيا بينما تتساهل مع أزماتٍ وكوارث أخرى بالعالم الثالث والدول الفقيرة، وانتفضت مع اكتشاف تدخُّلات فى انتخابات الرئاسة الأمريكية ولم تُكرّرها لتحصين بقيّة استحقاقات العالم رغم أن الخروقات والتوظيف السياسى من طقوسها التى لا تتوقَّف، وتتشدَّد فى حصار المؤسَّسات والمُنتجين النظاميِّين تحت لافتة الملكية الفكرية ومعايير المجتمع وتُمرُّر كل الملاحظات للهواة والعوام، وتنشط خوارزمياتها فى التدقيق بالأصالة أو بشراكة وكالات صحفية لكن ذلك لا يحدث مع الجميع، وتشطب مهددى مصالحها ولو كان رئيس أمريكا، وتشجع الأصوليين والإرهابيين ودعاة الكراهية. الثابت أنها تملك من التقنية ووفرة البيانات ما يسمح بسدِّ الثغرات جميعًا، وتصفية المحتوى على تنوُّعه وكثافته من الشوائب والتجاوزات؛ لكنها تُمارس انتقائيّة كأنها حصار مقصود لمؤسَّسات ونوعيات خطاب، وتمكين نشط لبدائل؛ إما تتبع جهات أو تغلب عليها الفوضى والعشوائية.
ما سبق لا ينفصل عن شكل التعامل مع البيانات. يتجاوز الأمر «كامبريدج أناليتيكا» وتسريب بيانات الناخبين لدى «فيس بوك»، وحالات شبيهة لبقيّة الشبكات؛ ويمتدّ إلى بيع الصور والمحتوى وملفَّات المستخدمين للمُعلنين وشركات البحث ومُطوّرى الأنظمة البيومترية والذكاء الاصطناعى وتدريب النماذج اللغوية.
دفعت «تيك توك» تعويضات ضخمة عن استثمار معلومات الأمريكيين الشخصية، وتوصَّلت «فيس بوك» لتسوية دعوى شبيهة فى ولاية إلينوى بـ650 مليون دولار، ووضعت «كليرفيو إيه آى» يدها على 30 مليار صورة من قاعدة مُشتركة لـ«ميتا ولينكد إن» وبُرِّر الأمر بأنه قرصنة وليس اتّفاقًا تجاريًّا. يُضاف لذلك التساهل فى مسألة الحقوق، ليس فقط بتقاعسهم عن التنسيق معًا لردع القرصنة؛ حتى أن محتوى «يوتيوب» قد يُسرق إلى «فيس بوك» دون إجراءٍ، رغم قدرتهم على العمل التضامنى وتوحيد المعايير والقواعد المرجعية لصالح الأصالة ومنع التربُّح غير المشروع؛ ويتّسع الخلل بتناقض الشركة الواحدة، فملكية يحرسها «فيس بوك» قد يسمح شقيقاه «انستجرام وثريدز» بانتهاكها، ما يعنى أن مأمونيّة البيئة الرقمية ومُجابهة القراصنة وصيانة الحقوق ليست الأصل فى سياساتها، إنما تُرفع الشعارات بقدر الحاجة إليها وما تجلبه من منافع، ثم تُلقَى عند أول مُفترق طرق؛ لاستكمال مسيرة الاحتكار والجشع والنهب المُنظَّم.
إخلاصًا للغاية التجارية، تتلاعب المنصَّات بقوانين عالمها الرقمى. لم تعد التقنية مُحايدةً كما يتوهَّم البعض؛ بل تُوظَّف بقصدٍ مُسبَق لإبراز وترويج رسائل بعينها، يُتوقَّع أن تثير الجدل والاشتباك والشحن عاطفيًّا وأيديولوجيًّا. قد يستغرب البعض أن مادّةً جادة لم تلق حظًّا من التفاعل، بينما تُحرز مواد سطحيّة أو ساخنة ذيوعًا قياسيًّا فى ظروف مُطابقة وعبر الصفحات نفسها، وقد يردُّه حسنو النيَّة لتفاهة الجمهور وتفضيلاتهم الرديئة، وفى الحقيقة تلعب خوارزميات التوزيع دورًا فى التسويق والبيع بالإلحاح وكثافة العرض وانتقاء الجمهور وإحكام المصيدة، من واقع معلوماتهم وأنماط تعاطيهم، بل بإمكانها شطب المحتوى كأنه لم يُنشَر رغم وجوده فعليًّا، كأنها تُلبسه «طاقيّة الإخفاء». تتراجع سُلطة المعرفة والقيمة لصالح اعتبارات التجارة، فيسقط الحديث عن الجدارة والحياد فى بناء سياق معرفى وفضاء تداولى نشط ودافع للأفكار؛ هنا يتأكَّد ملمح الاستثمار والربح بديلاً وحيدًا لأية عناوين عن الخدمة والرسالة والدور. المُزعج أن أغلب المُمارسات المُنفلتة تقع فى بيئات الجنوب/ بالمعنى الحضارى والاقتصادى، ما يجعلها نمطًا من الاستعمار الثقافى وصيغةً وصائيّة لصالح المركزية التبشيرية للعالم الأول، ويتحقَّق البُعد الامبريالى بأن أدوات الهيمنة الرقمية يترافق معها نَزحُ الثروات وفوائض القيمة لصالح البيئات المُتسيِّدة، سواء كانت الشركات أو مراكزها، دولاً وحكومات.
جانب من الأزمة يتّصل بالبيئة المحلية وما تختزنه من أصولية وتمايزات وعداء للعقل. صحيحٌ أن كثيرين لا يحترمون الكفاءة والتخصُّص، والأغلبية قد يقاومون الاعتراف بقُصور الوعى والخبرة والإلمام بالقضايا محلّ النقاش، فيُفتون فى الفن والثقافة والاستراتيجية والاقتصاد والعسكرية والصناعة والزراعة والمياه، بادّعاء ويقين مجّانى غشوم، وشهوة لا تنطفئ للكلام والظهور؛ إلا أن بقاء الحالة وازدهارها بعد سنوات التجربة وتطوُّر الوسائط، إنما يُشير إلى رغبة المنصَّات فى ذلك، ومصلحتها منه، لا سيما أن إنفاق مختبراتها الضخم ينصبّ على اجتذاب مُستخدمين جُدد وتحفيز تفاعلهم وإطالة مُدَد الجلسات النشطة، أكثر من اشتغاله على الأمن وضبط البيئة ومواجهة الانتحال والتزييف والمعلومات المُضلِّلة، وهى قادرةٌ لو أرادت، على الأقل بإبقاء الخروقات عند حدودٍ ثابتة، بدلاً من استفحالها ساعةً بعد أُخرى.
اليوم، نعيش عالمًا تحكمه المنصَّات الرقمية، وربما لدى بعضها طموحٌ لأن تتقدَّم من صفة البيئة الافتراضية إلى موقع الهيمنة الكاملة؛ لتكون بديلاً كاملاً عن الحكومات وأشكال الضبط والتنظيم التقليدية، وهى تُطوّر أدواتها لمزيد من الهيمنة، لا للانفتاح والمشاعية وديموقراطية المعرفة، بالضبط كما طوّر مُنتجو الفنون والترفيه آلياتهم لاستغلال التقنية ضد المُبدعين طمعًا فى رفع الفاعلية والأرباح؛ فاصطدموا بإضراب الفنَّانين الذى قد يُحدث أثرًا أو يتراجع لتظل الأوضاع على حالها. وقد يكون المشهد مُرشَّحًا للتكرار فى «السوشيال ميديا»، صحيح أنه لن يصل للإضراب بفعل غيبة الوعى الجامع باختلالات العلاقة، وصعوبة التضامن وتنظيم الصفوف؛ إلا أنه قد يتّخذ هيئة ثورة نوعية ببدائل مُستحدَثة تُنشئها بيئة صُنّاع التقنية وصراعاتهم البينيّة، وتُعيد هجرات الأفراد الرقمية تنظيمها وترتيب مراكزها بنعومة، لكن فى أيّة صيغة مستقبلية ستظل الحاجة قائمةً لترسيم الحدود: منصَّات التواصل استثمارٌ لا خدمة، ومُنتجو المحتوى شُركاء لا زبائن، وبيئات العمل والربح لها حقوق واجبة الاستيفاء، ويتعيَّن البحث عن أُطر تنظيمية وقانونية داخل كل دولة، وإثارة الأمر على نطاقٍ واسع فى الهيئات الأُمميّة المعنيّة بالاقتصاد والتكنولوجيا والتجارة والخدمات. كل منشورٍ أو صورة أو فيديو يبثّها مُستخدم عادى تُضاف لمدخلات الإنتاج وآليّات توليد الربح، وإذا كان عسيرًا استحصال الحقوق فى المدى القريب، فليس أقل من التصريح بها والحديث عنها، وتعليق الأجراس فى رقاب عمالقة الامبريالية الرقمية. إنهم يسرقون الجميع، وتثبيت التهمة على الجناة أوّل حقوق الضحايا وأهمُّها، فإذا كنا مُضطرّين لرؤية ثمار جهودنا جميعًا حكرًا على خزائنهم؛ فليس أقل من الإشارة بأُصبع الإدانة، والجهر بصوتٍ عالٍ: إنهم لصوص.. إنهم يسرقون العالم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة